ما يلتفت المرء يمنة ويسرة في عموم بلاد الإسلام إلا ويجد تبديل للدين ومخالفات للشرع متكاثرة -يجهر بها الناس من غير نكير-، وصار المتمسك بدينه غريبا يتعجب من حاله أولئك المخالفون للشرع لأنه لا يتشبه بهم ولا يشاركهم في منكراتهم، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون غربة للإسلام تشبه غربته الأولى ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء»1(1) [رواه مسلم (145)]..

الغريب من يصلح نفسه عند فساد الناس

ومن صفات الغرباء المذكورين أنهم أهل صلاح وسط فساد الناس، وأنهم يأمرون بمقتضى هذا الصلاح وأن أكثر الناس يعصون أمرهم؛ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»2(2) [رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (288)، وصححه الألباني في الصحيحة (1273)]..

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده-: «طوبى للغرباء». فقيل: من الغرباء يا رسول الله قال: «أناس صالحون، في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»3(3) [رواه أحمد (6650) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3921)]..

وفي رواية: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»4(4) [رواها ابن المبارك في الزهد (775)، وصححها االألباني في الصحيحة (1619)]..

فضل الغرباء

ولأجل ثبات هؤلاء الغرباء نالوا مدح النبي صلى الله عليه وسلم بما لا مزيد عليه، عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من ورائكم أيام الصبر الصبر (فيهن) مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله»5(5) [رواه أبو داود (4343) وغيره، وصححه الألباني]..

وعن أبي جمعة رضي الله عنه قال: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، قال: فقال: يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: «نعم، قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني»6(6) [رواه أحمد (16976) وغیره، وحسنه الحافظ في الفتح (7/6)، وصححه الألباني في المشكاة (6282)]..

قال ابن حجر: وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه: «تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين» ، قيل: منهم أو منا يا رسول الله قال: «بل منكم» وهو شاهد لحديث: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره»7(7) [رواه الترمذي (2869) وحسنه، وقال الألباني: حسن صحيح].. واحتج أيضا – يعني الحاكم – بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم قال فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء»، وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضی كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة؛ فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية، نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا والذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها على أن حديث «للعامل منهم أجر خمسين منكم»، لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة، وأما حديث أبي جمعة قلم تتفق الرواة على فضله، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ، قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا، الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم8(8) [انطر فتح الباري (7/6-7)]..

الغرباء أمان لأهل الأرض

وهؤلاء الصالحون أمان لأهل الأرض إلا إذا كثر الخبث – كما هو حال زماننا هذا-، عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث»9(9) [رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)]..

ولكن الصالحين يبعثون بفضل الله تعالى على أعمالهم، عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله على الله عليه وسلم: «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم»10(10) [رواه البخاري (7108) ومسلم (2879)]..

قال الحافظ ابن حجر: … قوله: «أصاب العذاب من كان فيهم».. والمراد من كان فيهم ممن ليس هو على رأيهم، قوله: «ثم بعثوا على أعمالهم». أي بعث كل واحد منهم على حسب عمله إن كان صالحا فعقباه صالحة وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين ونقمة على الفاسقين11(11) [فتح الباري (13/60)]..

وعن عائشة رضي الله عنها تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه». قالت: وفيهم أهل طاعة الله عز وجل؟ قال: «نعم، ثم يصيرون إلى رحمة الله تعالى»12(12) [رواه أحمد (24133) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (1372، 3156)]..

الغرباء أهل غَيْرة، ودعوة، وإصلاح

والمؤمن الغريب هو من يتمسك بدينه فلا يفرط فيه أبدا، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف:170].

يقول السعدي: (.. وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم.

ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسر القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة

ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.

ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) في أقوالهم وأعمالهم ونیاتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم)13(13) [تيسير الكريم المنان (1/307)]..

الغرباء الممدوحون المغبوطون

ويقول ابن القيم: (ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم:

التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه – وإن كان هو المعروف عندهم-، وتجريد التوحيد -وإن أنكر ذلك أكثر الناس- ، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله؛ لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية لله وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس – بل كلهم – لائم لهم؛ فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهلن شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم)14(14) [مدارج السالكين (4 /73)]..

وعن الحسن البصري يقول: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا يأنس في عزها، للناس حال وله حال، وجهوا هذه الفضول حيث وجهها الله عز وجل15(15) [رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (1475) بسند حسن]..

فالمؤمن لا يبالي بذل الدنيا من فقر وألم ومرض ونفي وحبس وإيذاء… فكل ذلك في جنب الله عز وجل لا شيء..

كما لا يغتر المؤمن بما قد يناله من عز في الدنيا کالمال والصحة والعافية فكل ذلك عرض زائل..

الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر

وقد لخص لنا نبينا صلى الله عليه وسلم حال الدنيا بقوله: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»16(16) [رواه مسلم (2957) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]..

يقول النووي: (معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإن مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد)17(17) [شرح مسلم (18/ 39)]..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (… فأما ما وعد به المؤمن بعد الموت من كرامة الله فإنه تكون الدنيا بالنسبة إليه سجنا، وما للكافر بعد الموت من عذاب الله فإنه تكون الدنيا جنة بالنسبة إلى ذلك.

وذلك أن الكافر صاحب الإرادة الفاسدة إما عاجز وإما قادر فإن كان عاجزا تعارضت إرادته وقدرته حتى لا يمكنه الجمع بينهما وإن كان قادرا أقبل على الشهوات وأسرف في التذاذه بها ولا يمكنه تركها.

ولهذا تجد القوم من الظالمين أعظم الناس فجورا وفسادا وطلبا لما يروحون به أنفسهم من مسموع ومنطور ومشموم ومأكول ومشروب ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك هذا فيما ينالونه من اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أعظم الناس خوفا – ولا عيشة لخائف -، وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم لا يزال في أسف على ما فاته وعلى ما أصابه.

وأما المؤمن فهو مع مقدرته؛ له من الإرادة الصالحة والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه، وهو مع عجزه أيضا له من أنواع الإرادات الصالحة والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه.

وكل هذا محسوس مجرب وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر ولم يخبرها)18(18) [قاعدة في المحبة ص (174-175)]...

سعادة أهل الغربة

وخلاصة الأمر أن لذات أهل الخير في الدنيا أعظم من لذات أهل الفجور، ولكنهم لا يعلمون ..

يقول الحافظ ابن رجب – معددا أسباب الزهد في حب العلو في الدنیا -:

(.. ومنها – وليس هو في قدرة العبد، ولكنه من فضل الله ورحمته- مما يعوض الله عباده العارفين به، الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف، مما يعجله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن.

وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرئاسات والحرص على الشرف، كما قال إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرئاسة الفانية..)19(19) [شرح حديث ما ذئبان جائعان صـ(91)]..

فليحرص العبد الصالح على تحصيل هذه اللذة الإيمانية التي لا تعدلها لذة من ملذات الدنيا، وليبذل في سبيل ذلك نفائس الأوقات والأفكار والدعوات والعبرات..

من وسائل دفع الغربة

1- الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر۔

2- دوام الجهاد في سبيل الله.

3- الالتزام بدفع الزكاة لمن سمی الله.

4- الثبات والصبر على الابتلاء20(20) [انتظر “من وسائل دفع الغربة” لسلمان العودة]..

وفقنا الله تعالى وعموم إخواننا لنيلها..

الهوامش

(1) [رواه مسلم (145)].

(2) [رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (288)، وصححه الألباني في الصحيحة (1273)].

(3) [رواه أحمد (6650) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3921)].

(4) [رواها ابن المبارك في الزهد (775)، وصححها الألباني في الصحيحة (1619)].

(5) [رواه أبو داود (4343) وغيره، وصححه الألباني].

(6) [رواه أحمد (16976) وغيره، وحسنه الحافظ في الفتح (7/6)، وصححه الألباني في المشكاة (6282)].

(7) [رواه الترمذي (2869) وحسنه، وقال الألباني: حسن صحيح].

(8) [انطر فتح الباري (7/6-7)].

(9) [رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)].

(10) [رواه البخاري (7108) ومسلم (2879)].

(11) [فتح الباري (13/60)].

(12) [رواه أحمد (24133) وغيره، وصححه الألباني في الصحيحة (1372، 3156)].

(13) [تيسير الكريم المنان (1/307)].

(14) [مدارج السالكين (4 /73)].

(15) [رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (1475) بسند حسن].

(16) [رواه مسلم (2957) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

(17) [شرح مسلم (18/ 39)].

(18) [قاعدة في المحبة ص (174-175)].

(19) [شرح حديث ما ذئبان جائعان صـ(91)].

(20) [انتظر “من وسائل دفع الغربة” لسلمان العودة].

اقرأ أيضا

فتن يجب الفرار منها .. فتنة الغربة

مظاهر الغربة في زماننا اليوم

حارسة القلعة في زمن الغربة

فداحة ثمن الغربة في بلاد الكفر .. الأبناء

 

التعليقات غير متاحة