الغربة فتنة، والبعض لا يتحمل الصبر عليها؛ فيذهب مع الجموع لا لجهل أوشك بل لعدم الصبر؛ فيهلك. ولو صبر لكانت سعادته أعظم مما يتصور وأعلى مما طلب.

مقدمة؛ فتنة الغربة

إن البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسببها، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من عدة طرق، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث، ونختم الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم.

روايات حديث الغربة

1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «النّزّاع من القبائل». (1الترمذي 5/ 18، أحمد 1/ 398، والبغوي في شرح السنة 1/ 18 وصححه)

2- وعنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغرباء» قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس». (2أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267)

3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها». (3مسلم شرح النووي 2/ 76)

4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم». (4أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650))

من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال أهل الغربة، وأنهم نُزّاع من القبائل، وهذا يشير إلى قِلتهم.

وأنهم يُصلِحُون إذا فسد الناس.

وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غَيْرة ودعوة وإصلاح، ولم يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد.

كما تدلنا هذه الروايات على بقاء المصلحين مهما اشتدت الغربة ولو كانوا قِلة ونُزّاعاً من القبائل. ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله عز وجل.

ولذلك والله أعلم صدّر الإمام الهروي، رحمه الله تعالى منزلة الغربة بقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: 116].

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية:

“استشهاده ـ أي مؤلف كتاب منازل السائرين ـ بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن؛ فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية”. (5مدارج السالكين: 3/ 194)

من أقوال السلف في الغربة وأهلها

قال الأوزاعي رحمه الله في قوله: «بدأ الإسلام غريباً…» الحديث: “أما إنه ما يذهب الإسلام؛ ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد”. (6كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29)

وعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: “استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء”. (7المصدر السابق)

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:

“وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يُصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما”. (8كشف الكربة ص32)

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى أيضا:

“وقد كان السلف قديما يصِفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.

ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي ـ وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني ـ يقول: “إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا، يُحبّ التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا صريعا غدَره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة”. خرّجه أبو نعيم في “الحلية”.

فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟”. (9“كشف الكربة في وصف أهل الغربة”صـ:322)

وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء. (10منهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [مجموع الفتاوى: 18/ 251]، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في [منزلة الغربة: 3/ 194] والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس (الاعتصام) : 1/ 97 والإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كشف الكربة فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة)

خلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها

1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة، أما قبل ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قِلة، ولكن قد توجد غربة تامة في مكان دون مكان، وفي جانب من الشريعة دون جانب. والله أعلم.

2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان.

3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم؛ لأن من أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله عز وجل ويُصلحون ما أفسد الناس ويجددون لهم دينهم.

4- المخالف لأهل الغربة كثير، والأذى الذي يتعرضون له عظيم؛ لكنهم بالحق الذي يحملونه، والمهمة الشريفة التي يؤدونها، والصبر الجميل الذي يتحلون به ثابتون مطمئنون.

5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: «وهو لمّا بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعُرف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرف، ثم يظهر ويُعرف». (11انظر مجموع الفتاوى: 18/ 305)

وفي هذا ردٌ على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل بعودته، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث. وفي كلام شيخ الإسلام السابق رد على هذا الفهم الخاطئ؛ وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ، فإنه سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى.

وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها». (12رواه مسلم في الفتن (2889))، وقوله: «لَيبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل. عِزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر». (13رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان)، وصححه الألباني في السلسلة 1/ 7)

6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي متفاوتة. فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة.

وأشد منها غربة أهل السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفِرق الضالة من أهل القبلة.

وأشد منها غربة أهل العلم بين عامة أهل السنة.

وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين أهل العلم القاعدين. وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله تعالى: “هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم” وهم الذين قال عنهم النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن من ورائكم أياماً الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أوَ منهم؟ قال: بل منكم». (14أبو داود في الملاحم (4341) ، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في السلسلة (494))

خاتمة .. سعادة أهل الغربة

أهل الغربة وإن كانوا قِلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم، وإن خالفهم أكثر الناس؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وحسبه دعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم «فطوبى للغرباء» أي سعادة لهم. وهكذا يجد المستقيمون على أمر الله في كل موطن كانوا وفي كل زمن يكونون.

…………………………………

الهوامش

  1. الترمذي 5/ 18، أحمد 1/ 398، والبغوي في شرح السنة 1/ 18 وصححه.
  2. أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267.
  3. مسلم شرح النووي 2/ 76.
  4. أخرجه أحمد (2/ 177، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650).
  5. مدارج السالكين: 3/194.
  6. كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28، 29.
  7. المصدر السابق.
  8. كشف الكربة ص32.
  9. “كشف الكربة في وصف أهل الغربة”صـ:322.
  10. منهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [مجموع الفتاوى: 18/ 251]، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في [منزلة الغربة: 3/ 194] والإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه النفيس (الاعتصام) : 1/ 97 والإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كشف الكربة فليرجع إلى هذه الشروحات ففيها فوائد جمة
  11. انظر مجموع الفتاوى: 18/ 305.
  12. رواه مسلم في الفتن (2889).
  13. رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان) ، وصححه الألباني في السلسلة 1/ 7.
  14. أبو داود في الملاحم (4341) ، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في السلسلة (494).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة