لا تتحمل الفطرة انطلاق سعار الشهوات، وإلا تآكلت وتلفت، وأرهقها انفتاح الشهوات كما يكبتها منعها، فكلاهما خطأ. ولكن دلالة انهيار الفطرة والبدن وتلفهما أمام إباحة الشهوات بإطلاق وتعدد يعني أنها مركبة في أبداننا لأداء وظيفة عبودية، أما التمتع المحض ففي الآخرة.
يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ..﴾ [آل عمران: 14-15].
دلالة تبادل الشهوات على الانسان
يتبادل الإنسان تناول الشهوات، وتتبادل الشهوات عليه، ولهذا دلالة..
أما تبادلها فهو في مقتبل عمره تتقدم وتتعاظم عنده شهوة النساء، وقد لا يلتفت للمال وحب امتلاكه إلا بقدر تحصيل الشهوة..
وقد تتقدم للبعض شهوة المال على النساء، وبالتالي تتراجع شهوة النساء لديه، ولهذا قصدت الروايات الأدبية أن تهييء أو تمهد لجريمة خيانة المرأة لزوجها بانصرافه عنها وعن الاهتمام بها ومعاشرتها لصالح شهوة المال المسيطرة، فلا تجتمع نفس الشهوات، بنفس القوة، على الإنسان في وقت واحد.
ومع تقدم السن قليلا تتراجع شهوة النساء غالبا لصالح المال..
وبعد تقدم السن أكثر يضحّي الإنسان بكل هذا، راجيا شهوة التقدير والتقدم والشهرة، أو باختصار “شهوة الرياسة” حتى أننا نعاني منها في قلوب الأخيار..!
وقد لا يلتفتون اليها إذ يلتفتون غالبا الى أنهم لا يقعون في معاصي تخص النساء أو المال فلا يرون معاصي هذ المجال، وبالتالي فلا ينتبهون لما تكتسبه شهوة الرياسة وحب التقدم من ذنوب ومعاصي أو كِبر أو ازدراء للمسلم أو غير ذلك، مما هو خطير عليهم.. ولهذا قال بعض السلف “آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حبُ الرياسة”.
إن شهوة التقدير والترؤس والتقدم تتمادى بالبعض الى أن يتضخم عند نفسه حتى يكاد ينفجر من الكِبْر والتعاظم..!! نعم تكاد تجد (بلدوزر) كاسحا يجرف ما أمامه من خَلْق ومشاعر وقلوب وأناسيّ ليحفظ سياجا حول نفسٍ ضعيفة لا تستحق كل هذا التعاظم؛ فيقتل النفوس والقلوب ألف مرة.
[اضغط هنا: الحرب بين حماة الفضيلة وحلف الرذيلة]
الانهماك يُتلف الإنسان، بدنا وروحا
وأما الجمع بين جميع هذه الشهوات بنفس القوة فيندر، وغالبا فإن صاحبه يتلف سريعا ويهلك، إذ لا يتحمل بدنُه ولا أعصابه ولا نفسيته كل هذا (العبء!) من الشهوات..
ولهذا ذكر بعض أهل العلم من باب الإشارة واللوازِم في تفسير قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ۞ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27-28].
فالتفسير بالمطابقة للآية أن الإنسان خلق ضعيفا أمام الشهوة ـ خاصة شهوة النساء ـ ولهذا خفف الله عنه بإباحة الزواج من الأَمَة المؤمنة بشروط خاصة في الآية: (خوف العنت وعدم وجود الطَوْل، وأن تكون الأَمة مؤمنة)، وهذا قول جمهور المفسرين..
ولكن من باب اللزوم؛ فالإنسان كذلك ضعيف أمام كثرة الشهوات وانفتاح أبوابها عليه، فهو يسقط فريسة ويتلف سريعا، والتجارب المعملية الحالية تقول أن الإنسان يعاقب على الجرائم عقوبة بيولوجية بتلف خلاياه وأجهزته تلفا حقيقيا، فعقوبة المعصية عقوبة حِسّية يجدها في انهيار تكوينه البدني وتلف خلاياه وأجهزته..
نوعان من الضعف
- فهذا ضعْفٌ أمام ضغط وإلحاح الشهوة فيستجيب لها، ومن أجل ذلك فتح الله تعالى له أبوابا مباحة لقضاء شهواته بطريقة نظيفة.. ورخض له رخصة نكاح الإماء في حال العوز مع خوف العنت..
- وهذا ضعْفٌ أمام انفتاح الشهوات عليه، ولهذا فمن رحمة الله تعالى أن حرم عليه التناول المحرم للشهوات وحرم عليه الاستجابة المنحرفة لها وحرم عليه اتباعها، وجعلها في يده وأمره بهذا؛ حيث أمره أن يمتلكها ولا تمتلكه، ويضعها حيث أمر الله لا حيث ما اشتهت نفسه بلا ضابط.
هذا ضعْفٌ فأبيح له ما يخفف شهوته، وذاك ضعْف آخر فحرم عليه اتباع المحرمات..
دلالة الى الآخرة
وأما دلالة هذا فهي أن هذه الدار الدنيا دار للعمل، لا للتمتع المحض، وأن الشهوات المركبة في أبداننا هنا إنما ركّبت لتكون دافعا للبناء والخير والقيام بالمنهج وتحقيق الامتحان، وبيئة الاختبار..
قد تدرك الآن معنى آية قد نمر عليها دون تدبر عميق عندما نقرأ قوله تعالى في وصف الجنة أنها “جنات النعيم”.. فهي مخلوقة للتنعيم وأهلها مهيؤون تماما للتنعم الكامل بلا تفويت لحظة في غير نعيم، حتى أنه لا نوم هناك فقد امتلؤوا حياة وقد خلصت لهم وخلصوا لها وتهيأت قواهم لنعيمها..
ولهذا فالنشأة الآخرة أتم وأكمل، وأقوى وأبقى من النشأة الأولى..
هنا يقيَّد الإنسان، أما هناك فتنطلق له أمانيه ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]..
فنشأة دار الدنيا هي الملائمة لوظيفة العبد في الدنيا ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [تبارك: 2]، ونشأة الدار الآخرة هي الملائمة لطبيعة الدار الآخرة ولعيمها وبقائها الممتد بلا انقطاع.. والحمد لله
فأسرِع الى ربك واكدح اليه وانضبط هنا بأمره وضع الأمور في نصابها وأعط لكل ذي حجم حجمه؛ فإن هناك ﴿ما توعدون﴾..
……………………………
اقرأ المزيد: