من أسباب النجاح في الحياة الدنيا والنجاة في الآخرة والفوز بالجنة أن يعلم العبد لماذا خلقه الله تعالى وأن يعمل وفق ذلك، وأن يكون تحقيق هذا هو هدفه من حياته وتردد أنفاسه؛ قال الله عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
الغاية من الخلق والطريق إلى تحقيقها
قال السعدي: هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي: عبادته؛ المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله1(1) [تيسير الكريم الرحمن ص (۸۱۳)].…
وعبادة الله عز وجل – وهي طاعته – لا تكون بالأهواء والرغبات والدوافع النفسية، بل لا تكون إلا بما شرع عز وجل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تشديد ولا تفريط؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين:
أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلَّم لا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) الآية. وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ). فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب، لا يعبده بالأمور المبتدعة2(2) [مجموع الفتاوى (۸۰/۱)]...
حملات الشياطين الضخمة لصرف الناس عن عبادة رب العالمين
ومن الواضح أن الشيطان وجنده يبذلون جهودًا ضخمة لصرف الناس عن هذا الهدف عبادة الله عزّ وجل وحده باستخدام كافة الآلات والمبتكرات؛ كالأفلام والمسلسلات والبرامج المتنوعة، والإباحيات، والرياضة، والمسابقات والألعاب والألعاب الالكترونية، وغيرها.
والإسلام لا يحرم الرياضة والألعاب النافعة، بل أرشدنا إلى النافع منها غير المضر، فمن ذلك ما رواه عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان فمل أحدهما فجلس، فقال له صاحبه: أجلست؟ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو سهو ولهو إلا أربعا: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، وملاعبته أهله»3(3) [رواه الطبراني في الكبير (١٧٨٥) ، قال الحافظ في الإصابة: إسناده صحيح. وقال الألباني في الصحيحة (٣١٥): إسناده صحيح على شرط مسلم]..
والغرض الهدف، وسمي موضع الرمي غرضا مشاكلة4(4) [انظر: السراج المنير شرح الجامع الصغير(4/214)] ..
قال المناوي: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب» فهو مذموم، وكل ما لا يوصل إلى لذة في الآخرة فهو باطل «إلا أن يكون أربعة» أي واحدة من أربعة هي «ملاعبة الرجل امرأته وتأديب الرجل فرسه ومشى الرجل بين الغرضين وتعليم الرجل السباحة»5(5) [انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير (٢١٤/٢)]...
حياة اللهو واللا “هدف” من أهم أدوات صرف الناس عن الغاية من خلقهم
وهذه الطائفة التي تُجر وتسحب إلى “اللا هدف” تضم أكثر الناس في زماننا هذا؛ فالشياطين والطواغيت قد أيقنوا أن مجرد العبادة المحضة لهم محدودة، وجمهورها قليل جدا كما هو مشاهد في مرتادي الكنائس -على سبيل المثال- ؛ فإنهم أقل القليل، وعامة النصارى أصبحوا علمانيين كارهين للكنيسة، أو على الأقل غير مبالين بها..
ولذلك كان سحب الناس للهو واللا “هدف” هو التصرف الأنسب لجذب الكثير من البشر، وصرفهم عن مجرد التفكير في سبب وجودهم على ظهر الأرض، أو أي شيء ينفعهم.
الإسلام يحرض الناس على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفع؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز …»6(6) [رواه مسلم (٢٦٦٤)] ..
قال النووي: ومعناه احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة7(7) [شرح مسلم (٢١٥/١٦)]..
وظاهر كلامه رحمه الله تعالى أن قوله صلى الله عليه وسلَّم: «احرص على ما ينفعك…» خاص بالحرص على النافع الأخروي وحده، ولكن إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم القول، وسياقه، يشمل النافع في الدنيا كما يشمل النافع في الدين. والله أعلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: “إني لأمقتُ الرجل أَرَاهُ فَارِغا، لا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ”8(8) [رواه وكيع في الزهد (٣٦٩) وغيره، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع]..
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»9(9) [رواه البخاري (٥٤١٢)] ..
قال السندي: «مغبون فيهما»، أي: ذو خسران فيهما10(10) [حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/542)]..
قال ابن حجر: فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي فقد غبن لكونه باعهما ببخس11(11) [فتح الباري(1/230)]..
وقال الطيبي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للمكلف مثلا بالتاجر الذي له رأس مال فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس، وعدو الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قول الله تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليم) الآيات، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس، ومعاملة الشيطان؛ لئلا يضيع رأس ماله مع الربح12(12) [فتح الباري لابن حجر (۲۳۰/۱۱)]..
وهذا التوجيه لعامة المؤمنين.
حامل القرآن حامل راية الإسلام
وأما حملة القرآن منهم فالأمر في حقهم أشد؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ موقوفا قَالَ: “مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، لَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتفيهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحَى إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحدَّ مَعَ مَنْ يَحِدُّ، وَلَا يَجْهَلْ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ.)13(13) [رواه الأجري في أخلاق أهل القرآن، وصححه الألباني في الضعيفة (٥۱۱۸)]. ومعنى يحد، أي: يحتد ويغضب.
وعن الْفُضَيْل بن عِيَاضٍ يَقُولُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ حَامِل رَايَةِ الْإِسْلَامِ؛ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْغُوَ مَعَ مَنْ يَلْغُو، وَلَا يَسْهُوَ مَعَ مَنْ يَسْهُو، وَلَا يَلْهُوَ.
وقَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ عَمَلًا، أي لِيُحِلُّوا حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَيَقِفُوا عِنْدَ مُتَشَاكِيه14(14) [رواه الأجري في أخلاق أهل القرآن ص (۱۰۳) بسند صحيح]..
يقول المناوي: «حامل القرآن حامل راية الإسلام»: استعارة؛ فإنه لما كان حاملا للحجة المظهرة للإسلام وقمع الكفار كان كحامل الراية في حربهم، قال الغزالي: فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن واشتغالا برفع راية الإيمان15(15) [فيض القدير (3/348)]..
صناعة “اللا هدف” نظير صناعة الجهل
وقد تكلمنا من قبل عن صناعة الجهل أو حملات تجهيل المسلمين [صناعة الجهل] ومظاهر ذلك بما يغني عن إعادته، وصناعة “اللا هدف” نظير صناعة الجهل، وقد تكون أخطر منها؛ و”اللا هدف” لا يصيب الجهلة وحدهم، بل قد يصيب طائفة من حملة العلم الاسمي..
علموا.
وأما حملة العلم حقا فلا يصيبهم شيء من ذلك؛ لأنهم ما حازوا هذه الرتبة إلا لأنهم يعملون بما علموا.
نعم تصيبهم الغفلات والفتور؛ لكنهم كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَابِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
قال الواحدي: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) يعني: المؤمنين (إِذَا مَسَّهُمْ) أَصابهم (طَابِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) عارض من وسوسته (تَذَكَّرُوا) استعاذوا بالله (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) مواقع خَطَئِهِمْ فينزعون من مخالفة الله16(16) [الوجيز ص (٤٢٨)]..
المسلم يضع أهدافه البعيدة والقريبة
فعلى المسلم ألا يكون فريسة سهلة للشيطان وجنوده، وليصبر فإن: «النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ…» كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلَّم17(17) [رواه أحمد (۲۸۰۳) من حديث ابن عباس]..
«وَالْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيف……» كما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
وليتعلم كل مسلم كيف يضع أهدافه البعيدة والقريبة؛ فإن ذلك من أسباب النجاح في الدنيا، وأن يركز عليها ويسعى لتحقيقها، مع التحلي بالإرادة والعزيمة الماضية لإنجاز هذه الأهداف.
وأن يعرض عن عقبات الطريق من الشهوات ونحوها مما يزينه الشيطان، ويستخدم جيشه لبث الشبهات التي تعين على ارتكاب المعاصي.
جنبنا الله عزّ وجل وعموم المسلمين إضلال الشيطان وجنوده..
الهوامش
(1) [تيسير الكريم الرحمن ص (۸۱۳)].
(2) [مجموع الفتاوى (۸۰/۱)].
(3) [رواه الطبراني في الكبير (١٧٨٥) ، قال الحافظ في الإصابة: إسناده صحيح. وقال الألباني في الصحيحة (٣١٥): إسناده صحيح على شرط مسلم].
(4) [انظر: السراج المنير شرح الجامع الصغير(4/214)] .
(5) [انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير (٢١٤/٢)].
(6) [رواه مسلم (٢٦٦٤)] .
(7) [شرح مسلم (٢١٥/١٦)].
(8) [رواه وكيع في الزهد (٣٦٩) وغيره، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع].
(9) [رواه البخاري (٥٤١٢)] .
(10) [حاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/542)].
(11) [فتح الباري(1/230)].
(12) [فتح الباري لابن حجر (۲۳۰/۱۱)].
(13) [رواه الأجري في أخلاق أهل القرآن، وصححه الألباني في الضعيفة (٥۱۱۸)].
(14) [رواه الأجري في أخلاق أهل القرآن ص (۱۰۳) بسند صحيح].
(15) [فيض القدير (3/348)].
(16) [الوجيز ص (٤٢٨)].
(17) [رواه أحمد (۲۸۰۳) من حديث ابن عباس].