هذه اللحظة التي نعيشها، بكل ما فيها من دمار وخراب، تكشف عن عمق المعركة الثقافية، لا العسكرية فقط، فالمعركة اليوم ليست على الأرض وحدها، بل على الرواية، وعلى الوعي..
“حصوننا مهددة من داخلها”
عنوانٌ عميقٌ وصادمٌ لكتاب شهير للدكتور محمد محمد حسين المتوفى عام 1982، أحد أبرز المنافحين عن هوية الأمة الثقافية في القرن العشرين، وصاحب المؤلَف المرجعي “الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي المعاصر”.
وقد صدق الرجل، إذ لم يكن العدو الخارجي وحده من يُهدَّد به كيان الأمة، بل كان -وما يزال- الخطر الأشد يكمن فيمن انسلخ من بني جلدتنا، فصار سهماً في خاصرة أمته، ومعولاً لهدم أسسها الروحية والفكرية.
من أخطر الأمراض التي تهدد الأمة من داخلها: ظهور فئة من أبنائها ممن باعوا عقولهم وضمائرهم، فصاروا سماسرة لثقافة الغالب، يروّجون لمفاهيمه، ويزخرفون مشروعَه، ويشككون في كل ما يمتّ إلى الهوية الإسلامية والعربية بصلة.
طوفان الأقصى يفضح ما كان مستورًا ويُسقط الأقنعة
وجاءت أحداث 7 أكتوبر وملحمة طوفان الأقصى لتفضح ما كان مستورًا، وتُسقط الأقنعة عن وجوه طالما تخفّت خلف شعارات براقة، فلم يعد الأمر مقتصرًا على “العمالة الحضارية” -كما سماها الدكتور محمد عمارة، في حديثه عن أولئك الذين تبنّوا المنظومة الغربية بثقافتها وقيمها ومفاهيمها- بل تجاوز الأمر إلى نوع جديد من العمالة: عمالة دموية، تحرّض ضد المقاومة علنًا، وتبرّر الجرائم الصهيونية بلا حياء، بل وتظهر شماتة مريضة، وتشفٍّ مرعب في وجوه الأطفال وأشلاء النساء، وكأنها تُسبّح بحمد الاحتلال وتُمجّد مذابحه.
من كان يظن أن يصل الانحدار ببعضهم إلى حدّ الظهور في مقاطع مصوّرة، بوجوه مكشوفة، وأصوات واضحة، يرددون شبهات الصهاينة، ويجترّون أكاذيبهم الممجوجة، من أحقية تاريخية مزعومة، إلى اتهامات للمقاومة زائفة؟!
هؤلاء هم “ذئاب الداخل”، الذين يستشهد بهم الأعداء لتبرير جرائمهم.
طعنات الداخل أشد أثرًا من نبال العدو
وما من حركة تحرر عرفها التاريخ إلا وكانت طعناتها من الداخل أشد أثرًا من نبال العدو، فخيانة الداخل هي التي تفتح للغزاة ثغرات في الحصون، وتُجهض الانتفاضات قبل أن تبلغ مداها.
هذه اللحظة التي نعيشها، بكل ما فيها من دمار وخراب، تكشف أيضًا عن عمق المعركة الثقافية، لا العسكرية فقط، فالمعركة اليوم ليست على الأرض وحدها، بل على الرواية، وعلى الوعي..
لذا، وجب أن نُسمي الأشياء بأسمائها، ونُميّز من اختار أن يكون مع الأمة، ومن ارتضى أن يكون سكينًا في يد جلاديها حتى تتكشف الحقائق ولا نكون ضحايا لحسن ظنٍّ زائف بمن لا يستحق الاحترام من نخب العار ومثقفي المارينز وزوار السفارات ومروجي التطبيع المخزي ولاعقي أحذية للصهاينة!
المصدر
صفحة الدكتور محمد العوضي، على منصة X.