بينما يتهاون الناس اليوم في شأن ساب رسول الله والساخر منه برسوم كاريكاتورية أو غيرها؛ كان للمجتمع الأول علاقة محبة فريدة مع رسول الله، ميّزته وغيرت حياته لأسمى حالة بشرية.

مقدمة

كان المجتمع البشري قد فقد نشاطه وأريحيته في الحياة وفي كل ما يأتي ويذر، وكان مجتمعاً مرهَقاً مخنوقاً، فكان مدفوعاً إلى ساحة الحرب من غير أن ينشط أو يتحمس لأغراض أولي الأمر، وكان مدفوعاً إلى الصلح ولم يقض من الحرب وطراً ولم يشف نفسه. وكان الرجال في هذا المجتمع يُرغَمون على التضحية والإيثار ومكابدة المتاعب ومعاناة الأمور الشاقة من غير هوى ومن غير وجدان ومن غير عاطفة؛ لا يحبون القادة ولا يحبهم القادة؛ فكانوا مرغمين على أن يطيعوا من لا يحبونه ويفدوا بأرواحهم وأموالهم من يبغضونه. فانطفأت جمرة القلوب وبردت العواطف ونشأ الناس على النفاق والرياء والختَل ونشَأت النفوس على الذل وتحمل الضيم والصغار.

كانت العاطفة القوية ـ التي يرجع إليها الفضل في غالب عجائب الإنسانية ومعظم الآثار الخالدة في التاريخ، تلك التي يسميها الناس (الحب) ـ تائهة ضائعة، لم يظهر منذ قرون من يشغلها ويستثمرها؛ فضاعت في ألوان الجمال الزاهية والمظاهر الخلابة الفانية مما تغَنَّى به الشعراء قديماً وحديثاً.

في هذا المجتمع الحائر المظلوم قام محمد صلى الله عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ثم حل منه محل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعين. وهو المبشر الذي جمع الله له أسمى صفات الجمال والكمال وأبلغ معاني الحسن والإحسان. من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه. يقول ناعِتُه: “لم أر قبله ولا بعده مثله”، فاندفع إليه الحب الصادق كما يندفع المال إلى الحدور. وانجذبت إليه النفوس والقلوب انجذاب الحديد إلى المغناطيس. كأنما كان من القلوب والأرواح على ميعاد. وأحبه رجال أمته وأطاعوه حباً وطاعة لم يسمع بمثلهما في تاريخ العشاق والمتيمين. ووقع من خوارق الحب والتفاني في سبيل طاعته وإيثاره على النفس والأهل والمال والولد ما لم يحدث قبله ولن يحدث بعده.

نوادر الحب والتفاني

وُطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوماً بعدما أسلم، وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه عتبه بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يُعرف وجهه من أنفه، وحَملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكّون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحّت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبْت، قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ قالت: هذه أمك تسمع..! قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو..؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1البداية والنهاية ج3 ص 30)

وخرجت امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ قالوا: خيراً هو بحمد الله كما تحبين..! قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل. (2رواه ابن إسحاق إمام المغازي، ورواه البيهقي مرسلاً، والجلل: الحقيرة)

رفعوا خبيبا رضي الله عنه على الخشبة ونادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك..؟ قال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه. فضحكوا منه. (3البداية والنهاية ج4 ص 63)

وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم “أحُد” أطلب سعد بن الربيع فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى لله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: أخبرني كيف تجدك..؟ فقال: على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام: قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف. وفاضت نفسه من وقته. (4زاد المعاد ج2 ص 134)

وتّرس أبو دجانة يوم أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره والنَبل يقع فيه وهو لا يتحرك (5المصدر السابق، ص 130) ومص مالك الخدري جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه قال له: مُجَّه. قال: والله ما أمجه أبداً. (6المصدر السابق، ص 136)

وقدِم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس. (7سيرة ابن هشام، ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة)

قال عبد الله بن مسعود الثقفي لأصحابه بعدما رجع من الحديبية: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملِكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضٌوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيماً له. (8زاد المعاد، ج3 ص 125)

عجائب الانقياد والطاعة

ولم يزل الانقياد والطاعة من جنود “الحب” المتطوعة، فلما أحبه القوم بكل قلوبهم أطاعوه بكل قواهم، يمثل ذلك خير تمثيل ما قال سعد بن معاذ عن نفسه وعن الأنصار قبل بدر: “إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فأظعن حيث شئت وصل حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك”. (9المصدر السابق)

وكان من شدة طاعتهم له صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه وأصبحت المدينة لهؤلاء كأنها مدينة الأموات ليس بها داع ولا مجيب. يقول كعب:

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبَنا الناس ـ أو قال: تغيروا لنا ـ حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف، إلى أن قال: حتى إذا طال عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ـ وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ ـ فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله..؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيني وتوليت حتى تسورت الجدار”. (10متفق عليه)

وكان من طاعته أيضاً وهو في موضع عتاب وجفوة أن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه ويقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها فلا تقربنها. فقال لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله من هذا الأمر. (11متفق عليه)

وكان من حبه للرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل أحد في الدنيا أن ملك غسان يخطب وده ويستلحقه بنفسه، وتلك محنة عظيمة في حال الجفوة والعتاب ولكنه يرفض ذلك قال:

“بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني؛ فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسِك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها. (12متفق عليه)

ومن غرائب الطاعة وسرعة الانقياد ما حدث عند نزول النهي عن الخمر في مجلس شرب؛ فعن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا وعندنا باطية (13الباطية: إناء من زجاج يملأ من الشراب) لنا، ونحن نشرب الخمر حِلاً إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وقد نزل تحريم الخمر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ ـ إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ ـ فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾. قال: وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا. انتهينا ربنا. (14رواه ابن جرير بسنده في التفسير عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، تفسير الطبري 7)

ومن غرائب الطاعة للرسول وإيثاره على النفس والأهل والعشيرة ما روي عن عبد الله بن عبد الله بن أبي، روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ قال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال: ما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل، أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبَّر مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.

فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال: أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يأويك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله. فقال: يا للخزرج، ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتي!! فقال: والله لا يأويه أبداً. إلا بإذن منه. فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: اذهبوا إليه فقولوا له: خلِّه ومسكنه. فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم. (15تفسير الطبري ج28)

خاتمة

يتضح لك أن محبة الجيل الفريد لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، محبة حقيقية وواقعية وفائقة، تختلف تمام عن حب أصحاب الأشعار والأغاني، وادعاءات المتصوفة، والمدعين كذبا للمحبة، الذين يتغزلون ويُطرون رسول الله بخلاف ما أمر ثم يخذلون نصرته حين يجد الجد؛ سواء عند إقامة شريعته فيخذلونها أو إقامة هوية الإسلام فينحازون للعلمانية والقومية، أو عند بلاغ دينه فيكونون قدرية مجبرة ويوافقون الغرب على فحوى حضارته وتفريغ الإسلام من مضمونه، أو عندما يعتدي أحد على رسول الله بسب أو سخرية فيقولون بحرية رأيه..!

…………………………

الهوامش:

  1. البداية والنهاية ج3 ص 30.
  2. رواه ابن إسحاق إمام المغازي، ورواه البيهقي مرسلاً، والجلل: الحقيرة
  3. البداية والنهاية ج4 ص 63.
  4. زاد المعاد ج2 ص 134.
  5. المصدر السابق، ص 130.
  6. المصدر السابق، ص 136.
  7. سيرة ابن هشام، ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة.
  8. زاد المعاد، ج3 ص 125.
  9. المصدر السابق.
  10. متفق عليه.
  11. متفق عليه.
  12. متفق عليه.
  13. الباطية: إناء من زجاج يملأ من الشراب.
  14. رواه ابن جرير بسنده في التفسير عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} الآية، تفسير الطبري 7.
  15. تفسير الطبري ج28.

المصدر:

  • “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، ص94-102. أبو الحسن الندوي.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة