إن الحضارة الإسلامية تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز علي العقيدة في أصفى مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معا، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد. وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ.
كما أن الحضارة الإسلامية تتميز بمصدرها الرباني تتميز كذلك بميزات ليست في غيرها منها:
الميزة الأولى: أنها حضارة تقوم على الحجة والبرهان واليقين
وليست حضارة تقليد أعمى وتسليم مطلق ولا تقوم على الظنون والاحتمالات التي لا يعرف الفكر الغربي غيرها لاسيما في بحوثه النفسية والاجتماعية، وكلامه عن نشأة الكون ووجود الحياة وتقديره للعصور الجيولوجية وأمثال ذلك.
فالنصرانية يقوم إيمانها على قاعدة (آمن ثم فكر)، وعلى عقيدة الأسرار التي يستعصي على العقول فهمها، وعقيدتها هي التثليث الذي لا تؤمن به الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولا تقره بدهيات الرياضيات.
ولما هرب العلمانيون في الغرب من خرافات الكنيسة وضلالاتها تفرقوا، فكان منهم الشيوعي والوجودي والعبثي والسريالي والفوضوي، وادعوا الحرية والديمقراطية والعقلانية وغير ذلك من المبادئ والنظريات ليحتموا بها من العقائد الكنسية، لا لأنها نتيجة تفكير هادئ متزن.
وهذا كله بخلاف الإسلام الذي يشترط للحق أن يكون دل عليه البرهان والمنطق والبيئة، ولذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة منها مثلا:
1- قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [النمل : 6٤].
2- (لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ) [النساء ١2٣].
3- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم) [المائدة: ١٨].
4- قوله تعالى عن اليهود: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: ۸۰]
5- قال تعالى عن المشركين: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا) اطلع الغَيْبَ أَو أَعْقَدَ عِندَ الرَّحمنِ عَهْدًا ) [مريم: 78-۷7].
6- قال تعالى عن المشركين (أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء: ۱۹۷] وقال: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ) [الأحقاف:١٠].
7- وقال تعالى: (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الصافات: ١٥٧].
8- وقال: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف: 4].
9- وقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت ٥٣]
10- وقال: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [المائدة: ١٠٤].
11- وقال: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) [الأنفال: ٤٢] والآيات والأحاديث كثيرة جدا.
ومن هذه النظرة العلمية القطعية يشترط علماء الإسلام لثبوت أي مصدر للمعرفة شروطا لابد من تحققها فالقرآن لابد أن يكون متواترا والحديث لابد أن يكون صحيحا.
فليس في الإسلام -ولله الحمد- توراة أو أناجيل مجهولة المترجم، ليحكم في ثبوتها الكهنوت، فضلا عن كون أناجيلهم الرسمية متناقضة ونسخ التوراة مختلفة، ولا يدري أحد بيقين من كتبها ومتى كتبت؟ وليس في الإسلام نُسخ سرية ولا غرف سرية ومكتبات سرية كما في الفاتيكان.
وليس في مصادره مخطوطات يقال إنها منحولة ولابد أن ينقحها الأحبار والرهبان لكي توافق التوراة المعمول بها في إسرائيل، أو الأناجيل الرسمية عند النصارى مثل مخطوطات كهوف قمران ونجع حمادي.
ولو أننا طبقنا شروط علماء الجرح والتعديل على ما عند أهل الكتاب اليوم لحكمنا على أن التوراة والإنجيل واهية جدا، والخلاصة أنها غير مقبولة ولا حجة فيها.
وهي نُسخ بشرية عدل فيها من عدل ورفضها كثيرون، ليس من المفكرين الغربيين العلمانيين وحدهم، بل من فرق اليهود والنصارى أنفسهم. وإذا أسلم منهم أحد بهته اليهود والنصارى وافتروا عليه الأكاذيب، وشوهوا سيرته وحياته وأهملوا ذكره مطلقا.
وهذه الطبيعة علمها عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وقال: (يا رسول الله إن اليهود قوم بهت سلهم عني أولا، فقال صلى الله عليه وسلم لليهود: ما تقولون في عبدالله بن سلام؟ قالوا حبرنا وابن حبرنا وعالمنا وابن عالمنا. قال أرأيتم إن أسلم؟ قالوا معاذ الله . فخرج عليهم عبد الله بن سلام وأعلن إسلامه فقالوا هو شرنا وابن شرنا! فقال: ألم أقل لك يا رسول الله إن اليهود قوم بهت).
وطمس النصارى ذكر النجاشي المسلم من قائمة ملوك الحبشة، وكذا طمسوا “منليك” الذي أسلم، وطمسوا كذلك الملك الانجليزي المسلم “إيفا ريكس” من التاريخ الانجليزي والأوربي، مع أنه كان يحكم انجلترا والنرويج وكثيرا من شمال أوروبا ووسطها، فأين حقائق التاريخ عن هؤلاء؟
وأهل الكتاب مع هذا البهتان وطمس الحقائق يحرفون كلام الله، قال تعالى عنهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) [النساء:46]، وقال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) [المائدة:41]، وقال: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ) [البقرة: ٧٩]، وهم يلوون ألسنتهم بالكتاب ليحسبه السامع من الكتاب.
وبذلك وضع اليهود أساس التأويل الذي تبعه عليهم المعتزلة والأشعرية، ثم بالغ فيه الباطنية كثيرا، وتبع الباطنية فيه (رولان بارت) حديثا، وكذا ما یسمی التأويلية الحديثة (الهرمونيطيقا)، وهم مع ذلك يأكلون أموال الناس بالباطل، وقد كان للكنيسة كثير من الأوقاف فضلا عن الجبايات الأخرى كالعشور والصدقات الاجبارية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) [التوبة: ٣٤].
وعاين ذلك قديما سلمان الفارسي رضي الله عنه، حتى أنه دلهم على جرار الذهب التي كان ينهبها الحبر الكاذب، كما رأى ذلك حديثا وتحدث عنه “مارتن لوثر”، وهم مع ذلك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأدخلوا في دينهم العقائد الوثنية كالتثليث مضاهاة منهم للأمم الوثنية السابقة، وكذا الشرائع الوثنية كعيد الميلاد، قال تعالى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ) [التوبة: ٣٠].
والتاريخ العام نفسه يثبت أن أصول تلك العقائد والشرائع النصرانية والوضعية هي ما كان عليه الفراعنة والهندوس والسبئيون، وأخذ النصارى عن الأفلاطونية الحديثة عقيدتهم في الكلمة التي سماها “فرفريوس” (اللوغوس)، كما أخذوا عن المشركين قبلهم الأقانيم، والأقنوم كلمة مختلف فيها أهي تعني الشخص أم الجزء أم الطبيعة أم ماذا؟
وعلى هذه الوثنية اليوم الرئيس الأمريكي الذي يستقبل “الدالاي لام” التبتي مدعي الألوهية الذي يؤمن البوذيون بأنه إله، دون أن يقف الرئيس الأمريكي مع مطالب أهالي تركستان وكل مسلمي الصين “الأيغور” الذين يبلغون أضعاف كفار التبت، والذين يعظمون المسيح وأمه كأي مسلم فالسياسة الأمريكية ضالة بكل مقياس إنساني أو رباني.
فلماذا يا فخامة الرئيس تختار الخرافة على الحقيقة؟ وكيف تؤمن بحق الأقليات إذا كانت خرافية ولا تؤمن بحقها إذا كانت مسلمة؟ وهل تعلم أحدا من زنادقة المسلمين فضلا عن الصالحين منهم يشتم المسيح وأمه، وكيف صار البوذي أفضل عندك من المسلم؟ وكيف تصمت على إرغام المسلمين على الإفطار في رمضان؟ وعلى تحديد النسل؟ وعلى نزع الحجاب؟ وعلى تحديد من أداء الصلاة في المساجد؟ فأين الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان؟
أمن الحرية والديمقراطية ما يفعله الشيوعيون في الصين ضد الأيغور، كمنع الأذان بالمكبرات ومنع تحفيظ القرآن حتی الفاتحة؟ وكيف تكون الراهبة الأمريكية محجبة ولا تكون المسلمة كذلك؟ وكيف تقول إن أمريكا تنشر الديمقراطية في العالم ولا تنكر على بورما أنها حرمت المسلمين من التصويت؟ أهكذا الديمقراطية أم الإنجيلية؟ أم أنه الحقد والحسد.
وكما قامت النصرانية على التقليد والظنون والاحتمالات والتخرصات قام أيضا أكثر النظريات الغربية والفرضيات الغربية، وربما صح منها شيء في حق أوروبا وحدها، ولكن تعميم ذلك على العالم كله والمجتمعات كلها خطاً علمي.
والظنون لا يصح تطبيقها على عالم الغيب بل ولا على العالم المادي إذا كان العقل البشري يجهله، ومن ذلك كلامهم عن الكواكب مع اعترافهم أن بعضها كالمشتري مثلا أكبر من الأرض بألف ضعف، وأبعد منه كلامهم عن المجرات أن المسافة بين مجرة وأخرى تقدر بملايين أو مليارات السنين الضوئية، أي أنهم لم يحيطوا بهما علما، وذلك من أسباب كفر الكافرين، قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس: ٣٩] وقال: (أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) [النمل: ٨٤]، وكثير من نظرياتهم ليس لها أساس علمي وإنما هي رجم بالظن من مكان بعيد.
على أن الرحمن الرحيم سبحانه علم الإنسان ما لم يعلم، وجعل الميزة العظمى للإنسان في العلم وجعل اليقين هوا المعتمد.
وليست الشجرة التي نهي أبوانا عن الأكل منها هي شجرة معرفة الخير والشر كما تزعم التوراة، ولا هي العلم كما تزعم أسطورة “بروميثوس” اليونانية، وكيف يكون الدين عدوا للمعرفة وكلاهما رحمة من الله!
ومن المعلوم أن الله علم آدم الأسماء كلها وأنزل أول ما أنزل (اقرأ) والنبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء المشركين تعليم أبناء المسلمين، وأقر زيدا أن يتعلم لسان اليهود، وأفاد من التجارب البشرية للمجتمعات الكافرة، وقال: (لقد هممت أن أمنع الغيلة ثم وجدت فارس والروم يغيلون فلا يضر أولادهم).
وقبل أن يثبت “بيكون” و”جاليلو” أن الاعتبار إنما هو للملاحظة التجريبية، وليس التفكير العقلي المجرد كما فعل أرسطو، كان الله في القرآن قد أمر بالنظر في ملكوت السموات والأرض.
ولكون الإسلام دين الثقة المطلقة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نجد المسلمين لا يخشون أبدا اكتشاف أي مخطوط للقرآن أو للأحاديث، بل ينتهجون لذلك، وإنما يصيب الهلع والرعب قلوب أهل الكتاب، كما رأينا هلع إسرائيل والفاتيكان عند اكتشاف مخطوطات البحر الميت، ونجع حمادي، وذلك الآن أكثر، ومحاولات اليهود والنصارى تنقيح ما يعثرون عليه كي يوافق معتقداتهم أصبحت اليوم صعبة بل مستحيلة، مع تقدم وسائل الاتصال الحديثة وانتشارها.
وقد استقال البابا “بندكت السادس عشر” من منصبه وبين سكرتيره أن أسباب ذلك تسرب بعض الوثائق من مكتبة الفاتيكان، وأظن أن الذي تسرب هو الأناجيل القديمة التي يظهر بها أن اختيار الكنيسة للأناجيل الأربعة المعروفة مجرد تحكم وهوى وليس عن علم وتمحيص، وهذه الأناجيل لا سيما الأرامية -فوق أنها أقدم- مكتوبة بلغة المسيح نفسه، وليست مترجمة، وفيها ما يوافق القرآن خصوصا في المسألة البالغة الخطورة (صلب المسيح عليه السلام)، وهذا الاكتشاف يثبت وحدة الدين المنزل ويبطل عقيدة التثليث والصلب الوثنية، التي يؤمن بها النصارى لا يشذ عنهم إلا القلة المعتقدة للتوحيد من البروتستانت، وفي هذه الأناجيل التصريح باسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق الله (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ) [الأعراف: ١٥٧]، والشيء الذي ربما غفل عنه البابا “بندكت السادس عشر” هو أن مثل هذه الأناجيل موجودة في الحبشة، وفي تركيا، وفي مناطق كثيرة من العالم خارجة عن سيطرة الفاتيكان.
وهذه الاكتشافات تجعل الغرب يزداد كفرا بالنصرانية ويعد ما يسمى “الحوار النصراني الإسلامي” عبثا سياسيا لا محل له، لا سيما والنصارى يستثنون المسائل المختلف فيها من الحوار!! ويجعلون الحوار وسيلة للمطالبة ببناء كنائس لهم في السعودية.
فالعقيدة الإسلامية يقينية قطعية ولا مجال فيها للظنون والاحتمالات، أما الغربيون فكثير منهم يأتون لبلاد الحرمين ويعملون للدنيا فقط، ولو أن أحدا سألهم عن أخطر قضية مستقبلية تواجه العالم، وهي فناء الحضارات واندثار البناء الكوني في جملته والبعث بعد الموت، لقال: قد يكون ذلك أو يحتمل أو ربما، فهم كما قال جل شأنه عنهم: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: ٣٢]، وهذا الظن هو قول أمثلهم طريقة، دع من يلحد ويقول إن الكون جاء صدفة.
المصدر
كتاب: “المسلمون والحضارة الغربية” للشيخ سفر الحوالي ص 144 – 150.
اقرأ أيضا
بين الحضارة النيّرة والحضارة ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ المظلمة .. مختارات من “المسلمون والحضارة الغربية” (9)