النماذج التي اختارها القرآن والمواقف والكلمات والردود والانفعالات، ليسجلها ونتلوها الى يوم القيامة ليس من فراغ؛ بل وراءه حكمة بادية لنا اليوم وهي أن تلك النماذج عينة ممثلة للبشرية الى يوم القيامة.

مقدمة

يقول سبحانه وتعالى ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾. وهذه الآية الكريمة باقٍ حكمها وأثرها ودلالتها وانطباقها الى يوم القيامة.

إذ إنه لما كانت النماذج البشرية مكرورة كانت استجاباتها وانفعالاتها سواء في قبول الحق أو رفضه أو مراوغته متشابهة. ومن نظر في انفعالات الأولين وجد المتأخرين أفراخهم وذراريهم..! الشأن فقط فيمن يفقه القرآن فيجد فيه كل إجابة شافية فيمن يعاصرهم أنه قد سبق وذُكرت في آبائهم ـ في العقيدة والموقف ـ من قبل.

نماذج الأمس تعيش اليوم..!

انتفاخ الثقافة الكاذبة

أثار انتباهي زمناً أن كل الشباب المبتدئين في الثقافة والذين يتبجحون بأفكار مخالفة للقرآن أنك حين تقترب من أحدهم وتبدأ في مناقشته يتكشف لك داخل صدره بالون الغرور المنتفخ، والزهو المزيف بأنه مطّلع ويعرف مصطلحات معقدة بين مجموعة من الجهلة.

الحقيقة أنني لم أستطع أن أربط بين (الغرور) و(الضلال عن آيات الوحي). لم يدُر في خَلَدي أن فقاعة الغرور تلك هي التي عصبت عينيه عن إبصار برهانية آيات الوحي، وحين مررت هذه الأيام بآية في كتاب الله، ارتبطت أمامي أطراف الصورة من جديد.. كم اندهشت حين اكتشفت عبر القرآن أن المريض بخيلاء الثقافة يعاقبه الله بأن يحجب عنه برهانية أنوار الوحي؛ قال الحق تبارك وتعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف:146].

يعرفونه لكنهم يرفضونه..!

كنت مرة في صالون ثقافي شهير في شرق الرياض، كان ينظمه أسبوعياً أحد الوجهاء/الأدباء، وفي أحد التعقيبات استلم هذا الوجيه/الأديب اللاقط وانهمر يلمز خطاب أهل السنة والجماعة بأنه خطاب مبني على الكراهية، وأخذ يندد بخطاب الكراهية، وثقافة الكراهية، بكل حجة ممكنة..

إحدى تلك الحجج التي كررها أكثر من مرة، ولفتت انتباهي، بل وفكرت فيها طويلاً، هي قوله “لماذا نكره من يختلف عنا دينياً..؟ هم لم يختاروا أفكارهم إلا لأنهم يرون أنها هي الصواب. هل يعقل أن يعرف المرء أن فكرة ما غير صواب ومع ذلك يتبناها؟ هل يعقل أن يضر المرء نفسه..؟”

وتكررت العبارة الأخيرة كثيرا “هل يعقل أن يختار أن يضر المرء نفسه..؟ هل يعقل أن يختار أن يضر المرء نفسه..؟”

ثم بعد فترة مررت بآية في كتاب الله هزتني هزاً. وأخذ سؤال ذلك الوجيه/الأديب يتصدع أمام عيني وينثال كثيباً مهيلاً.. آية في كتاب الله كشفت كيف يعرف المرء الحق أكثر مما يعرف ولده؛ ومع ذلك يختار الضلالة. هل هناك أشد من معرفة الإنسان ولده الذي من صلبه..؟ ومع ذلك قد يصل الإنسان إلى مثل هذه المعرفة في الوعي بالمطلوب شرعاً لكنه يقرر بمحض إرادته اختيار الباطل بسبب هواه..!! قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:146].

المعوِّقون لم يَذهبوا..!

ثمة طائفة من الناس ليس لهم جهود في الاحتساب ومدافعة الباطل وأهله، ولكنهم مقرون بتقصيرهم منكسرون لله إزاء استغراقهم وانهماكهم بشؤونهم المعيشية عن نصرة دين الله، ومحبون وموالون لأولئك المحتسبين الذين يجاهدون المنكرات الشرعية ويضحون بوقتهم ومالهم وراحتهم..

فالفريق الثاني ما أقربه إلى الأول ببركة مبدأ “المرء مع من أحب”؛ ولكن ثمة فريق ثالث من الناس لم يكتفوا بقعودهم وتقصيرهم في الاحتساب والدعوة؛ بل زادوا على ذلك بأن امتهنوا التثبيط والتخذيل وتشجيع التثاقل إلى الأرض، لا تراهم في أي منكر من المنكرات، وإنما تراهم يتصيدون الشبهات والشذوذات يصدون بها الدعاة عن حميّتهم وغيرتهم. وهذا الفريق الثالث توعده الله بخطاب مخيف حين يقول الله عنهم: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ [الأحزاب:18].

خصوصية موسى

تمر بالمرء آيات كثيرة بين ثنايا المصحف تعظّم من شأن الأنبياء، وتملأ قلب المؤمن إجلالاً لهم وتوقيراً لمنازلهم؛ ولكن ثمة آية واحدة ذكر الله فيها موسى عليه السلام، لا أدري لماذا يقشعر بدني حين أمر بها..!

أعرف أن موسى هو الرجل الثالث في ميزان الله بين مليارات البشرية جمعاء في كل تاريخها الطويل؛ لكن هذه الآية بلغت من الدلالة على عظمة موسى ما ينخلع له قلبي حين أمرُّ بها. قد يذكر الله صفة عظيمة من صفات نبي، وهذا لا شك منْقُبة جليلة؛ لكن أن يذكر الله سبحانه وتعالى عن نفسه شيئاً يخص هذا الشخص بعينه، ويذكره بمثل هذه اللغة المليئة بمعاني الفرادة.. فهذا ما لم أستطع أن أتمالك نفسي كل ما مررت بها. يقول تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه:41].

مراعاة الحدود في وقتها

حين تكون “العلاقة الزوجية” على ما يرام فإن الرياح تجري بما تشتهي السفن.. لكن حين تتأزم العلاقة الزوجية وتصل إلى عنق الزجاجة، ويصبح الطلاق هو الزلزال الوشيك فإن “التقوى وخوف الله” تكون غالباً في أضعف حالاتها. إن أيام الشجار التي تسبق الطلاق تكون غالباً مليئة بالفجور في الخصومة؛ ولذلك ما أكثر ما شدني ولفت انتباهي آيتين متتاليتين في كتاب الله تحدثتا عن أحكام الطلاق. فبرغم أن الآيتين مكرستين لأحكام الطلاق إلا أن الله سبحانه ذكّر الزوجين فيها بمراعاة “حدود الله” ستة مرات، في آيتين فقط مخصصتين لأحكام الطلاق ومع ذلك يؤكد ربنا مراعاة “حدود الله” ستة مرات..!

أيّ إشارة لتأكيد هذا الموضوع أكثر من ذلك..؟ بالله عليك أقرأ هاتين الآيتين بترسّل، وانظر كيف يختار الله الموضع الذي يعيد فيه التأكيد على “حدود الله”. يقول تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:229-230].

إعادة إنتاج الانحراف

حين يطالع المرء المقالات والمذاهب المنحرفة التي رواها القرآن عن خصوم الرسل، وحين يطالع المرء ـ أيضاً ـ موسوعات فنّ “الملل والنحل” فإنه يلاحظ ظاهرة حادة الوضوح لا يمكن بتاتاً أن تعبر بين عينيه دون أن يحدق فيها؛ بل لقد سمعت الكثير من المراقبين لا يملّ من تكرار تساؤله عن هذه الظاهرة.. ألا وهي ظاهرة (إعادة إنتاج الانحراف)..!

فالكثير الكثير من الظواهر الفكرية المنحرفة عن مبادئ الوحي حين تحلل جوهرها تجد أنها فكرة قديمة أكل عليها الدهر وشرب.. صحيح أن هناك تجديدا وتغيرات في شكل الصياغة والمكياج اللغوي، لكن جوهر الفكرة المنحرفة فيه تشابه هائل مثير للدهشة.. إنها أشبه بتدوير النفايات من جديد (Recycling)، فالشكل الخارجي مختلف لكن المادة هي المادة..!

خذ مثلاً: المفكر العلماني المعروف “محمد أركون” كتب عدة دراسات يلمز القرآن بأنه أسطوري البنية بسبب الوسط الثقافي الذي تشكلت فيه تصورات محمد..!

يتصور أن هذه نظرية جديدة..! برغم أن الله ساق عن مشركي قريش ذات النظرية: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان:5].

وهؤلاء هم الليبراليون في أيام غزة صاروا يرددون بأن المقاومة “لو كانوا عقلاء وسمعوا نصيحتنا والتزموا الصمت لما وقع عليهم القتل والذبح”.. برغم أن الله ساق هذه المقالة عن المنافقين حين قالوا: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران:168]..

بل كان بعض السلف يرى أن آية ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾ [غافر:83] تكررت في مشهد انحراف فلاسفة الإسلام عن الوحي غرورا بعلومهم العقلية..!

وشواهد هذه الحالة التي يرى المرء فيها المذاهب المنحرفة في القرآن يعاد إنتاجها مع بعض التحسينات الشكلية كثيرة جداً، حتى كان بعض السلف إذا رأى بدعة يتصور بعض الناس أنها جديدة يقول (لكل قوم وارث) أي أن هذه لها أصول قديمة فلا جديد..!

المهم ليس ما سبق كله . المهم أنني كنت أتصور أن هذه الملاحظة هي مجرد فرضية في قراءة تاريخ الملل والنحل، وليس هناك استقراء واضح يؤكد كونها فعلاً ظاهرة تاريخية. ولكم كانت دهشتي في غايتها حين وقفت على آية عظيمة تشرح هذا القانون التاريخي الذي تعيد فيه الانحرافات إنتاج ذاتها، وتبدد وهمي السابق أنها مجرد ملاحظة عابرة يبديها بعض المختصين؛ يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت:43].

زادتهم رجسا .. ولم تزل!

من الأمور اللافتة للانتباه أن هذا القرآن العظيم برغم كونه هدى وشفاء وبيان ونور وحجة وبرهان الخ الخ.. إلا أنه من الغريب فعلاً أنه ليس كل الناس ينتفعون بهذا الهدى والبيان..! وطالما ثار في ذهني تساؤل غريب: ما دام أن هذا القرآن هدى وبيان لِمَ لَمْ يهتد به الناس جميعاً..؟

بل كنت أرى ظاهرة وأتحرز من التصريح بها خوفاً من أكون انتهكت هذا الوصف القرآني؛ حيث كنت أرى بكل وضوح خلال تاريخنا أن كثيراً من المنتسبين للمعرفة يتورطون في تحريف وجحد بعض معاني القرآن لتوافق ثقافة المنتصر؛ بقاعدة قديمة وحديثة؛ مفادها:

تحريف الغيبيات لتوافق الثقافة اليونانية، وتحريف التشريعات لتوافق الثقافة الغربية

فبكل صراحة كنت أقول في نفسي هؤلاء لما قرءوا القرآن لم يهتدوا، بل ولم يخِفّ ضلالهم، وإنما زاد ضلالهم، فبعد أن كان ضلالاً بسيطاً، صاراً ضلالاً مركباً، لكنني كنت أتخوف من أن أصارح نفسي بمثل هذه النتيجة، وأتوقف كثيراً أمامها، وأعود للتساؤل: هل يمكن أن يقرأ الإنسان القرآن ويزداد ضلالاً..؟

وبعد مدة وقفت على الجواب في القرآن، وكشف الحق تبارك وتعالى عن هذه الظاهرة بكل وضوح، حيث أوضح أن القرآن لبعض الناس زيادة هدى، ولبعض الناس زيادة ضلال بسبب أهوائهم؛ تأمل بالله عليك كيف يصف القرآن حال الناس عند نزول سورة جديدة من سور القرآن: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124-125].

استعظام الجاهل

يكثر في كتابات أهل الأهواء الفكرية أنهم حين يستعرضون أصحاب المكتشفات العلمية أو الأعمال الإنسانية أن يجزموا بأن هذه الشخصيات في الجنة حتى وإن لم يؤمنوا بنبوة محمد، وتراهم يقولون “كيف يكون هؤلاء في النار وقد نفعوا البشرية جمعاء؟!”.. فلست أدري كيف يتجرأ هؤلاء على تحدي حكم الله الذي اشترط الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة:54].

خاتمة

هكذا إن صدق الناس في الأخذ من كتاب ربهم والتعامل معه بصديقية وبصيرة سيجدون فيه إجابات واقعهم؛ فواقعهم ليس بدعا من الأمم، ولا كفارنا اليوم أول من عاند أو أعرض أو مكر.

والله تعالى جاعل فرجا ومخرجا.

………………………………………….

اقرأ أيضا:

المصدر:

  • إبراهيم السكران، كتاب “مجموعة نسائم القرآن” ، ص35-44.

التعليقات غير متاحة