تحصيل العلم مطلوب، ولكن العمل به يعطي لصاحبه صفة العلم ويجني به ثمرات ما تعلمه، حتى يصير العلم وصفا جبلّيا وتصرفا طَبعيا.
مقدمة
للعلم مقتضيات وثمرات، وهو ينشيء أحوالًا ويكسب العبد صفات. والمطْلوب منْ العلْم أنْ ينْشيء حالًا للإنْسان، وهي أنْ يسير العبْد على مقْتضاه ويتمثّله في حياته، فيؤْتي العلْم مقْتضاه منْ القوْل والعمل والأحْوال والإيمان.
أحوال الناس في العلم
ومما نوضحه هنا ما ذكره الإمام «الشاطبي» هو أن الناس في العلم ثلاثة أحوال:
الأول: مخالفة العمل للعلم
وهذا هو الغيّ، وهذا في حال غلبة الشهوة والهوى على العبد فلا ينقاد لعلمه، بل يتكلم به ويصفه للناس ويجادل به وعليه، ولكن قلبه لا يقتات منه، ولم يحْيَ به، ولم يستضيء بما أنزل الله، ولم يحكّمه على نفسه؛ فهذا هو الغيّ؛ ففقدان العلم ضلال، وفقدان العمل بالعلم غيّ وهلكة..
ولهذا لما مدح الله رسوله ﷺ قال فيه: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ﴾ [النّجْم:2]، فنفى عنه خلل العلم بقوله ﴿مَا ضَلَّ﴾، ونفى عنه خلل العمل بقوله ﴿وَمَا غَوَىٰ﴾.
ولهذا أُمرنا أن ندعو في كل ركعة بهداية الصراط المستقيم، وهو صراط المنعم عليهم، وهم من علموا الحق وعملوا به فقاموا بالهدى ودين الحق، العلم والعمل به، ثم نقول في صلاتنا: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، يعني غير صراط وطريق من علموا الحق وخالفوه، وغير صراط من فقدوا العلم فَضَلُّوا.
بينما المنعَم عليهم هم من عَلِمُوا الحق وعملوا به وهم على درجاتهم؛ من نبيّ وصديق وشهيد وصالح، فالعلماء يفسرون المنعَم عليهم في الفاتحة بآية النساء: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾ [النّساء:69].
الثاني: من يعمل بعلمه حينا ويخالفه حينا
فهو بين داعي الخير وداعي الشهوة، فمرة يزكو ومرة يضعُف، ففي قلبه حياة، ولكن لم يرسخ العلم في قلبه بعد.
الثالث: موافقة العمل للعلم برسوخ
من يصبح قوله وعمله وإراداته موافقة لعلمه وجارية على مقتضاه كأنه خلق جبلّي خُلق به، وصفة من صفاته جُبل عليها، فهذا يعمل بعلمه بلا تكلف ولا جهد استدعاء العلم ومقتضاه؛ بل صار عمله بالعلم كأنه أمر طَبْعي، بل يصل إلى حال لا يحسن المعصية لو أرادها..! كما قال بعض السلف: «إنّي لا أُحْسِنُ أعْصي ربي»، فهذا من غاية العلم التي يجب أن تضعها أمامك لكي تصل إليها، وهي الرسوخ والعمل التلقائي بالعلم..
وقد عرّف رسول الله ﷺ الراسخين بقوله: «منْ بَرَّتْ يمينه، وصدق لسانه، واسْتقام به قلْبه، وعَفَّ بطْنه وفرْجه». (1رواه الطّبريّ في تفْسيره (5/ 223) [آل عمْران:7] منْ حديث أبي الدّرْداء وأبي أمامة رضي الله عنه ، وكذا ابْن أبي حاتمٍ في التّفْسير (2/ 599)، وكذا الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (7658) منْ حديث منْ سبق وواثلة بْن الأسْقع وأنس بْن مالك رضي الله عنه) عندما تطلب العلم ضع هذه الغاية أمامك، أن يرسخ العلم في قلبك وأن يصير لك كأنه وصف خَلْقي وطبع جبلّي وعملٌ تلقائي بلا جهد ولا كلفة، والله المعين.
قال تعالى عن «يعقوب» عليه السلام: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف:68]، قال بعض السلف أنه “ذو عمل بما علمناه”، فكان توجيههم لمعنى الآية للعمل بسبب أنه لا يضاف لأحد صفة العلم حتى يكون وصفًا راسخًا لصاحبه إلا إذا عمل به وعلى وفقه ومقتضاه.. وإلا كان جاهلًا برغم أنه يعلم قبح المخالفة..!
ويكفيك في هذا آية «يوسف» وهو يقول: ﴿وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف:33]، فخاف على نفسه أن يخالف علمَه فيكون جاهلًا؛ إذ إن المخالف للعلم كالجاهل سواء، طالما استوى عملهما.
ومن هنا فاعلم أن الرسوخ في العلم يغير شخصيتك ويعيد صياغتها وتكوينها ويجدد ملامحها، فهو تغيير عميق وهو المراد بالعلم، وبهذا يخرج القرآن إنسانًا جديدًا.. هكذا الأمر فاظفر به.
أقْـمارٌ تضـيء
إذا أردت فرقًا عمليًّا بين الثاني والثالث؛ من رسخ في العلم ومن لم يرسخ، انظر إلى من رأوا «قارون» في زينته، ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص:79]، بينما كان موقف من أوتي العلم مختلفا، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص:80].
لقد عاد الفريق الأول يندم وتتبين له الحقائق لكن بعد هلاك «قارون»، بينما العلماء الراسخون كانوا يرون الأمور قبل وقوعها لرؤيتهم الأمور بما أراهم الله من العلم بحقائق الأمور، فما قالوه أوّلًا، قاله الأقل عن درجتهم متأخرًا.
وإذا أردت مثالًا ثانيًا فانظر لمن عبَروا النهر مع «طالوت» لمواجهة «جالوت» وجنوده؛ فإنه للوهلة الأولى عند رؤية عدد العدو وهيبته، ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾. لكن موقف العلماء الراسخين الموقنين كان مختلفًا؛ كانوا أكثر ثباتًا وثبّتوا معهم غيرهم، ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:249].
المخالف للعلم قد يهلك في لحظة وقد يثبته الله، فالأمثلة السابقة ممن ثبتهم الله بأهل الرسوخ. لكن غيرهم هلك، فتشكك بعضهم حتى وصل إلى حافة الهاوية.. بينما الراسخ في العلم مثل صاحب الجنة الذي كان يرى حقيقة ما غرّ الآخر فكان يرى جنته في قبضة الله يأتيها أمره ـ بسبب كفره ـ من أصلها أو من فوقها فلا يستطيع رد هذا ولا ذاك. ﴿فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهْف40-41].
الرسوخ مثل قول رسول الله ﷺ لـ «أبي بكر» رضي الله عنه عندما قال له: «لوْ نظر أحدهمْ تحْت قدميْه لرآنا»؛ فقال له رسول الله ﷺ: «ما ظنّك باثْنيْن الله ثالثهما؟». (2رواه مسْلمٌ في صحيحه (2381) منْ حديث أنس بْن مالكٍ ﭬ، كتاب فضائل الصّحابة رضي الله عنهم – باب منْ فضائل أبي بكْرٍ الصّدّيق رضي الله عنه)
الراسخون مثل سادات الأولياء من أصحاب رسول الله ﷺ، فلما نزل بهم الأحزاب تذكروا الوعد السابق، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214]. وعاشوه ورأوا فيما نزل بهم خبر الله السابق ووعْده، فتجهّزوا لما وعد بالصدق المنجي، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحْزاب:22].
الرسوخ مثل قول «موسى» عليه السلام عند ظن الناس الهلكة، وكان قد وعد من ربه وعدًا أنه ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: 77]؛ فاستحضَر الوعد واستيقَن الأمر فلما قالوا له: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشّعراء:61]، هتف: ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشّعراء:62].
الرسوخ مثل قول «أبي بكر» لـ «عمر» رضي الله عنهما يوم الحديبية نفس كلمات رسول الله ﷺ لـ «عمر» رضي الله عنه من غير أن يسمعها من رسول الله ﷺ فقال له: «إنّه رسول الله وليْس يعْصيه وهو ناصره»، وهي نفس كلمات رسول الله ﷺ لـ «عمر» رضي الله عنه، قبْلها بلحظات، ثم قال «أبو بكر» رضي الله عنه له: «فالْزَمْ غرْزه». (3رواه البخاريّ في صحيحه (2731) منْ حديث المسْور بْن مخْرمة ومرْوان بْن الحكم رضي الله عنهم ، كتاب الشّروط- باب الشّروط في الجهاد والمصالحة مع أهْل الحرْب وكتابة الشّروط، بلفْظ: «أيّها الرّجل إنّه لرسول الله ﷺ، وليْس يعْصي ربّه، وهو ناصره، فاسْتمْسكْ بغرْزه، فوالله إنّه على الحقّ»)
خاتمة
“الرسوخ” يغير الصفات والأخلاق، ويغير الملامح، ويصحح المناهج وطريقة المعيشة والحياة، ويصوّب طريقة تناول الأمور، ويصحّح المواقف، ويؤثّر في الآخرين، ويثْبُت بهم الآلاف وينجون في أحرج اللحظات، فيثبتون بالله تعالى ويثبت الله بهم غيرهم ويكتبون التاريخ ويصححون مجراه.. كثّر الله منهم بفضله ومنّه تعالى.
…………………………………….
الهوامش:
- رواه الطّبريّ في تفْسيره (5 /223) [آل عمْران:7] منْ حديث أبي الدّرْداء وأبي أمامة رضي الله عنه ، وكذا ابْن أبي حاتمٍ في التّفْسير (2/ 599)، وكذا الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (7658) منْ حديث منْ سبق وواثلة بْن الأسْقع وأنس بْن مالك رضي الله عنه.
- رواه مسْلمٌ في صحيحه (2381) منْ حديث أنس بْن مالكٍ رضي الله عنه، كتاب فضائل الصّحابة رضي الله عنهم ـ باب منْ فضائل أبي بكْرٍ الصّدّيق رضي الله عنه.
- رواه البخاريّ في صحيحه (2731) منْ حديث المسْور بْن مخْرمة ومرْوان بْن الحكم رضي الله عنهم ، كتاب الشّروط- باب الشّروط في الجهاد والمصالحة مع أهْل الحرْب وكتابة الشّروط، بلفْظ: «أيّها الرّجل إنّه لرسول الله ﷺ، وليْس يعْصي ربّه، وهو ناصره، فاسْتمْسكْ بغرْزه، فوالله إنّه على الحقّ».