الصادقون أتباع الرسل لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم.
الصدق أصل أعمال القلوب كلها
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ؛ فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب.
والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119])1(1) الفوائد ص135..
من ثمرات الصدق
– تفريج الشدائد وكشف الكربات والنصر على الأعداء
يظهر فضل الصدق في حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الغار، وكيف أن الله عز وجل أنجاهم من هذه الشدة والضائقة بفضل صدقهم مع الله عز وجل في أعمالهم التي توسلوا بها إلى الله سبحانه .
وكذلك في قصة المخلفين الثلاثة رضي الله عنهم كيف أن الله سبحانه تاب عليهم ونجاهم من الكرب الذي أصابهم بسبب صدقهم في عذرهم لرسول الله وصدقهم في توبتهم، وقد جاء بعد توبتهم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
وقد أدرك كعب بن مالك رضي الله عنه – وهو أحد الثلاثة – فضل الصدق وكيف أن الله سبحانه قد نجاه بالصدق فقال: وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، ومن توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت). ويقول الإمام ابن کثیر رحمه الله عند هذه الآية: أي اصدقوا والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا .
ويقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما أثر الصدق في تحقيق النصر والتمكين في الأرض فيشهد لهذا أدلة الكتاب والسنة والحس والتجارب، ولا يتحقق الصدق في طلب النصر حتى يقوم العبد بالحق على نفسه وعلى غيره، ويكون قيامه بالحق لله عز وجل ويستعين في إقامة هذا الحق بالله سبحانه ؛ فهذه ثلاث دعائم لتحقيق الصدق في طلب النصر والفرج من الله سبحانه.
– غفران الذنوب وتكفير السيئات
مر بنا في الفقرة السابقة قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم، وأن صدقهم كان سببا في توبة الله عز وجل عليهم، فالصدق في التوبة من الذنب سبب في المغفرة وتكفير السيئات ، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5] وأن التوبة النصوح التي أمر الله سبحانه عباده بها هي التوبة التي صدرت من قلب صادق، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [التحريم: 8].
ولا توصف التوبة بأنها صادقة إلا بالشروط التي ذكرها العلماء لقبول التوبة وغفران الذنوب، ألا وهي الندم والإقلاع والعهد بعدم العودة إليه مع الإخلاص في ذلك لله عز وجل.
إذن فالتوبة الصادقة ثمرتها المغفرة وتكفير السيئات، كما أن الصدق في أداء الأعمال الصالحة والإكثار من الحسنات يؤدي إلى محو السيئات وتكفيرها، كما قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114] .
-الهداية للحق دلالة وانقيادا
يقول الله عزوجل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، فمن هذه الآية نفهم أثر الصدق في مجاهدة النفس ابتغاء مرضاة الله عز وجل بفعل الطاعات والجهاد في سبيل الله سبحانه، وأن ثمرة ذلك الهداية للطريق المستقيم في الدنيا والآخرة والتوفيق لمعرفة الحق واتباعه والانقياد له.
يقول الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالی عند هذه الآية ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾: أي لنبصرنهم سبلنا، أي طرقنا في الدنيا والآخرة . قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حتى وافق ما في قلبه2(2) تفسیر ابن کثیر آية 69 العنكبوت ..
ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (وكلما كثرت الطاعات تراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ ، وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون، فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب، لأنهم عاصون بترك الإخلاص، وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال)3(3) قواعد الأحكام ص 42 ط. الطباع. .
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت ؛ بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر . وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»4(4) مسلم (2934). ، فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله، مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة، حتى أن من رآه افتتن به ، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها.
وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انکشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾ [النور: 30] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور . فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم، والظن أن هذا القول کذب ؛ وأن هذا العمل باطل؛ وهذا أرجح من هذا؛ أو هذا أصوب)5(5) مجموع الفتاوی (13/ 240)..
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: 9]: (فهداهم أولا للإيمان فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية ، ونظير هذا قوله: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مریم: 79]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29] ، ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وکسر الباطل)6(6) الفوائد ص130 ..
والحاصل من كل ما سبق أن الصدق مع الله سبحانه وتقواه كل هذا يثمر توفيق الله عز وجل للعبد إلى الحق والصواب، وبخاصة إذا التبست الأمور وحارت العقول وكثرت الفتن كما هو الحال في زماننا هذا. فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين.
– الزهد في الدنيا والتزود للآخرة
إن الإيمان ليس بالتحلي والتمني ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل” فالإيمان الصادق بالله عز وجل وباليوم الآخر لابد أن يثمر العمل الصالح، والاستعداد للرحيل والإكثار من الزاد ليوم المعاد. وهذا بدوره يحمل على الحذر من كل ما يشغل عن هذه الغاية العظمى من فتن الدنيا المختلفة؛ فيزهد في ذلك كله ويجعلها في يده لا في قلبه، وقد جاء في الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن شرح الصدر في قوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الأنعام: 125] فقال صلى الله عليه وسلم: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح، قيل فهل لذلك أمارة؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت»7(7) الحديث ذكره ابن كثير عند هذه الآية في تفسيره وقواه لتعدد طرقه، وقد مر ص311..
– حسن الخاتمة
وهذه خاتمة المسك في ثمار الصدق فما أعظمها من ثمرة وما أشرفها من غاية ، فهي التي شمر إليها المشمرون، وهي التي أقضت مضاجع الصالحين وأوجلت قلوب العارفين . فما هو السبيل إليها؟
إن أعظم سبيل إليها هو الصدق مع الله سبحانه في الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والذي يثمر بدوره الأعمال الصالحة المنبثقة من العبودية الحقة لله عز وجل.
إن الصدق وتحريه طريق إلى مرتبة الصديقية والخاتمة الحسنة الموصلة لركب الصديقين، وهذا هو ما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «وما يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا»8(8) متفق عليه. ، وهذا يفيد حسن خاتمة من صدق وتحرى الصدق؛ لأن الله عز وجل يكتبه عنده صديقا، ولا تكون هذه المرتبة إلا لمن علم الله حسن خاتمته وأنه سيموت على الإيمان الحق . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»9(9) رواه أبو داود ك الجنائز (3116)/ (3 / 486 )، والحاكم 1/ 351. . فما هو السر في حسن خاتمة من ختم كلامه بكلمة التوحيد؟
يجيب على ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی جوابا عظيم الفائدة له علاقة بالصدق في كلمة التوحيد وأثر ذلك في حسن الخاتمة فيقول:
(لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها ، وأقبلت بعد إعراضها، وذلت بعد عزها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها، واستسلمت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق، أذل ما كانت له ، وأرجی ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه، فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا، واستوی سره وعلانيته؛ فقال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه، وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره؛ فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه؛ لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون ما سواه، لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها، ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي، و الله المستعان)10(10) الفوائد، ص55. .
الهوامش
(1) تفسير ابن كثير سورة التوبة 119.
(2) تفسیر ابن کثیر آية 69 العنكبوت .
(3) قواعد الأحكام ص 42 ط. الطباع.
(4) مسلم (2934).
(5) مجموع الفتاوی (13/ 240).
(6) الفوائد ص130 .
(7) الحديث ذكره ابن كثير عند هذه الآية في تفسيره وقواه لتعدد طرقه.
(8) متفق عليه.
(9) رواه أبو داود ك الجنائز (3116)/ (3 / 486 )، والحاكم 1/ 351.
(10) الفوائد، ص55.
اقرأ أيضا
من ثمرات الصدق..الدعوة إلى الله والتضحية في سبيله
من ثمرات الصدق.. الطمأنينة والسكينة والثبات
علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”