ثقل التكليف السمة الجوهرية للإسلام

لو كان التكليف خفيفًا، لكان الثمن زهيدًا، ولكان المثمن تافهًا، لكن لأن الثمن غالٍ (الجنة) كان لا بد أن يكون المدفوع غاليًا أيضًا (التكليف)، فالثقل هنا ليس ظلمًا، بل هو مُعادل القيمة بـ (الفضل الإلهي)..

ثقل القول: حمل الأمانة والتحول الوجودي

وصف الله عز وجل القرآن بأنه “قول ثقيل”: “إِنا سنُلْقي عليكَ قولًا ثَقِيلًا”، ليس مجرد استعارة بلاغية، بل هو كشف عن طبيعة جوهرية في بنية التكليف الإلهي.

فهو ثقيل في العمل به لأنه ثقيل في حمل أمانته، لذلك كان بالغ الثقل في تلقيه من السماء ولم يتهيأ له إلا النبي صلى الله عليه وسلم.

فالثقل هنا ليس عيبًا فيه، بل سمة مقصودة، تعبيرًا عن حقيقة أن ما يُطلب من المسلم ليس مجرد شعائر، بل تحوّل وجودي عميق في علاقته بنفسه وبالعالم.

تحويل اليُسر إلى “سهولة كاذبة”: تفريغ الدين من مضمونه

التعامل مع الإسلام وشعائره بوصفه دين غير مُكلّف، هو تفريغ له من جوهره وقلب لحقيقته، إذ يُحوّل اليُسر – الذي معناه إمكانية الحمل بالإعانة الإلهية وتشريع الأسباب – إلى سهولة كاذبة تُنكر المشقة، فيصير الخطاب عن الدين غريبًا عن واقع من يعيشه.

الإسلام ليس دينًا “سهلاً” بالمعنى الاستهلاكي

الإسلام لا يُقدّم نفسه كدين “سهل” بالمعنى الاستهلاكي للكلمة، كما تفعل الليبرالية والأيدلوجيات المادية المعاصرة، حيث الراحة الفورية والإشباع السريع، بل يُقدّم نفسه كدين “ثقيل” معه “يُسر” وله “ثمن”.. بمعنى آخر: أنه قابل للالتزام رغم ثقله، وأن فيه من الإعانات ما يجعل حمل هذا الثقل ممكنًا، الفرق بين “السهولة” و”اليسر” هنا دقيق وحاسم: السهولة تعني غياب المشقة، أما اليسر فيعني إمكانية تحمّل المشقة بفضل ما يُعطَى من عون.

ولماذا لا يكون التكليف خفيفًا؟

لو كان المطلوب من الدين أن يكون خفيفًا على النفس، لكان مجرد انعكاس لرغباتها، لا مُهذّبًا ومُشكّلًا لها، الثقل هو ما يُحدث الفارق بين ما نريده وما يُراد لنا، بين الهوى والهدى.. هذا الثقل ليس تعسّفًا، بل هو شرط التحوّل  لأن النفس لا تتهذّب إلا بمقاومة نزعاتها الأولى لتعود لفطرتها.

الجسد: ساحة المعركة الكبرى بين الهوى والهدى

لذلك ليس عبثًا أن تتركز كثير من التكاليف الشرعية حول “الجسد” من صلاة (حركات تطلب الخشوع) وصيام (منع من حاجات) وحج (مشقة جسدية) وحجاب (تغطية).. كذلك المناهي الشرعية الكبرى من زنا وخمر وعدوان؛ كلها كبح لنزعات أو رغبات تنطلق من الجسد وتعود إليه.

لماذا تركز الليبرالية على تحرير الجسد؟

لأن الجسد هو موضع الهوى.. فليس غريبًا أن يكون تركيز الليبرالية كله حول حريته وخصوصيته وتقديسه!

فالجسد ليس مجرد “لحم ودم”، بل حيّز الرغبة والحاجة والخوف والرضا والرجاء، وهو ما نُعرِّف أنفسنا من خلاله في العالم، فالتكليف الذي يمس الجسد هو الأكثر عمقًا، والأكثر اختبارًا للإنسان.

السمع قبل الطاعة: الاعتراف بالثقل أولى خطوات الإيمان

الاعتراف بالثقل هو أول خطوة نحو فهم حقيقي للتكليف والاستجابة له.. لهذا تبدأ الشريعة في فكرة “السمع والطاعة” بـ “السمع” قبل “الطاعة”، السمع أولًا – أي الاعتراف بوجود الأمر وثقله كما هو، دون تحريف كما فعل أهل الكتاب أو مساومة كما طلب المشركون – ثم الطاعة، أي حمل هذا الثقل رغم معرفته، فمن لم يسمع حقيقة التكليف؛ سينفر من الطاعة ويتملص منها بطريقة أو أخرى.

السمع: الإقرار بحقيقة الأمر الشرعي كما هو – بثقله وكلفته – لا كما نتمنى أن يكون.. والطاعة: الانقياد للدين لا خيالًا صنعه الإنسان لنفسه عن الدين.

نماذج عملية: استشعار الثقل من صميم التجربة الإيمانية

خذ مثلًا، الحجاب..

لا يمكن اختزاله إلى مجرد تكليف شرعي بسيط متعلق بضبط ثياب المرأة.. لأنه يمس الجسد، وهو الحيّز الأكثر حميمية لها، وكيف تُرى المرأة وكيف ترى نفسها، بعلاقتها بالفضاء العام وضغوطه الاجتماعية، وخياراتها في الظهور، وهذا كله لابد فيه من صراعات تخوضها المرأة مع أداء هذا التكليف.

استشعار المسلمة ثقل الحجاب مع تمسكها به، ليس اضطرابًا نفسيًا ولا نفاقًا ولا عملًا ضد الإيمان، بل هو من صميم التجربة الإيمانية: تجربة الثقل والمُجاهدة.

الربا: اختبار الإيمان في مواجهة ضغوط العيش

الأمر نفسه يُقال عن الربا مثلًا.. لأن مداره على المال، وعلى المال مدار العيش بكرامة، في عالم يقهر في متطلباته ويزيد من إفقار الناس ومنظومة اقتصادية عالمية لا تكاد تعرف بديلًا عن الفائدة.. فالحاجة تضغط باستمرار والحرام يُغري باستمرار!

الإعانات الربانية: كيف نحمل هذا الثقل؟

هذا ليس معناه أن الله عز وجل يُكلّف بما لا يُطاق، أبدًا، التكليف ثقيل من حيث طبيعته، لكنه في حدود الطاقة من حيث الإمكان، ومُحمّل بإعانة..

إعانة تشريعية مثل الرخص والاستثناءات التي تراعي الأحوال،

إعانة إلهية مثل اللُطف والبركة والتوفيق “والذين جاهدوا فينا لنَهدينَّهُم سُبلنا”،

إعانة اجتماعية مثل أُخوة الدين والتكافل،

إعانة نفسية مثل الوعد بالأجر والثواب ما يُحوّل المشقة إلى نوع من الاستثمار “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسَهُم وأموالَهُم بأن لهم الجنة”، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين عُرض عليه الإسلام أول مرة فرجع لأهله يقول: “وجدتُ بضاعةً بنَسيئة، ما وقعتُ على بضاعةٍ قط أنْفَس منها”، قيل له: ما هي؟ قال: “لا إله إلا الله”!

الثقل هو المدفوع الغالي مقابل المثمن الغالي (الجنة)

لو كان التكليف خفيفًا، لكان الثمن زهيدًا، ولكان المثمن تافهًا، لكن لأن الثمن غالٍ (الجنة) كان لا بد أن يكون المدفوع غاليًا أيضًا (التكليف)، فالثقل هنا ليس ظلمًا، بل هو مُعادل القيمة بـ (الفضل الإلهي).. لهذا كان أجود الناس في استحقاق هذا الثمن “الشهيد” لأنه جاد بنفسه كلها، وهذا أقصى ما يستطيع أن يُقدمه المسلم.

المصدر

صفحة د. محمد وفيق زين العابدين، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

مؤامرة تمييع الدين [1]

وَذَرِ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ دِینَهُمۡ لَعِباً وَلَهۡواً

التعليقات غير متاحة