إن طاعة أولي الأمر -التي أمرت بها الآية- طاعةٌ مبصرةٌ واعيةٌ رشيدة، وليست طاعةً عمياء، تتم بغفلة وسذاجة. وهي طاعةٌ مقيدةٌ بالتزام أولي الأمر بمنهج الله، وليست مطلقةً تجب لهم مهما كان وضعهم.
واجب التصدي للمفاهيم المغلوطة لبعض آيات القرآن
لقد ساءنا تحريف المحرِّفين لمعاني كلام رب العالمين، وللنتائج الخاطئة التي خرجوا بها منها، والأحكام الباطلة التي بنوها عليها، كما أزعجنا ازدياد نسبة هذه التحريفات في هذا الزمان، وشمولها لآيات ذات أبعاد شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية.
وقد قرأنا عن مفاهيم لبعضهم زعموها قرآنية مستمدة من القرآن، كما سمعنا كلاماً كثيراً أورد فيه أصحابه مفاهيم ومعاني زعموها قرآنية، مستمدَّة من آيات معينة، وقَبِل بعض الناس بهذا التحريف، وهذه النتائج والمفاهيم.
وحرصاً منّا على بقاء مفاهيم القرآن كما هي في كتاب الله، وعلى الفهم الصحيح لآيات القرآن، وقياماً منّا بواجب الحراسة على حسن الفهم للقرآن، وواجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، وواجب تقديم العلم الذي نراه نافعاً للآخرين، فإننا سنورد نماذج حرَّفوها، واستنبطوا منها أحكاماً ومفاهيم زعموها قرآنية.
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: (وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59].
يأمر الله المؤمنين بطاعة الله وبطاعة الرسول عليه السلام، وبطاعة أولي الأمر من المسلمين. وإذا حصل اختلافٌ وتنازعٌ بين المسلمين، فعليهم -إنْ أرادوا الوصول إلى الحق- أن يحتكموا إلى الله ورسوله، وذلك بأن يردوا الأمر المختلف فيه إلى الكتاب والسنة، فإن فعلوا ذلك كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، ونالوا الخير والتوفيق والرضوان.
الفهم المغلوط للآية
لكننا قد نسمع -أو نقرأ- لبعض المسلمين، وهم يحرّفون معنى هذه الآية، وهم يستشهدون بها في غير ما توحي به، ولا تدل عليه.
إن هؤلاء يجعلون من الآية حجة على وجوب طاعة ولي الأمر، مهما كانت صلته بدين الله وتطبيقه لأوامر الله، وحكمه بما أنزل الله، إنهم يوردون هذه الآية في معرض استدلالهم على طاعة الحاكمين والسلاطين، وتنفيذ أوامرهم المخالفة لتعاليم الإسلام، كأن يكون فيها منع أداء حق، أو أمر بمعصية ومنكر، أو إيذاء لآخرين وأكل لحقوقهم.
إنهم يعتبرون أنفسهم مجرد موظفين عند المسؤولين، وما عليهم إلا التنفيذ والالتزام والسمع والطاعة.
إنهم يُلغون شخصياتهم، ويتنازلون عن حريتهم وكرامتهم، ويتحولون إلى مجرد أدوات توجَّه هنا وهناك، بدون إرادة أو اختيار.
والعجيب أنهم يموّهون على أنفسهم وعلى الآخرين، فيعتبرون تصرفاتهم الشائنة التزاماً بهذه الآية، وُيضْفون عليها معنى العبادة والتقرب إلى الله، ويزعمون أنهم يطيعون أولي الأمر الذين أمرت الآية بطاعتهم.
إنه لضلالٌ عريضٌ أن نتلاعب مع القرآن، وأن نقوم بتحريف معاني آياته، وإنه لضلال عريض أن نجعل من الذل والضعف والجبن والمسكنة عبادةً لله، وأن نجعل من التنازل عن الحرية والإرادة والشخصية تقرباً إلى الله سبحانه، وأن نجعل من آيات القرآن حجةً لهذا ودليلاً عليه.
ولا يجوز أن ننسى كلاماً رائعاً عظيماً للإمام الشافعي – رضي الله عنه – حيث يقول:
أَنا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أَعْدِمُ قوتاً … وِإذا مِتُ لَسْتُ أَعْدِمُ قَبْراً
هِمَّتي هِمًةُ المُلوك وَنَفْسي … نَفْسُ حُرٍّ تَرى المَذَلَّةَ كُفْراً
الفهم الصحيح للآية
الآية -موضوع البحث- ليست دليلاً على وجوب طاعة أولي الأمر إذا كانوا ظالمين، وإذا أمروا بما يتعارض مع دين الله، ولكنها دليلٌ على عدم طاعتهم في هذه الحالة، وحرمة هذه الطاعة، وتعرُّض فاعلها لغضب الله وعذابه.
إن طاعة أولي الأمر -التي أمرت بها الآية- طاعةٌ مبصرةٌ واعيةٌ رشيدة، وليست طاعةً عمياء، تتم بغفلة وسذاجة. وهي طاعةٌ مقيدةٌ بالتزام أولي الأمر بمنهج الله، وليست مطلقةً تجب لهم مهما كان وضعهم.
إننا عندما نمعن النظر في الآية، نستخرج منها عدة دلالات:
1 – طاعة الله مطلقة، لأنه تجب له الطاعة دائماً، باعتباره لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن المنكر والشر، وهو الحكيم العليم الخبير.
2 – طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقة كذلك، لأنه الرسول عليه السلام، لا يأمر بمعصية، ولا ينهى عن خير، فهو معصوم بعصمة الله له من الذنوب والمعاصي والأخطاء، وقد جعل القرآن طاعة الرسول عليه السلام طاعة لله، فقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80].
3 – إن طاعة الله وطاعة رسوله مستقلتان، وكلاًّ منهما تكوِّن وحدةً خاصةً، ومجموعةً محددة، فأصبحتا طاعتين وكيانين ومظهرين وحقيقتين، بينهما تداخلٌ واتصالٌ وارتباط، لذلك كرر فعل الأمر فيهما فقال: (أطِيعوا اللهَ وَأَطِيعوا الرَّسول). فتكرار فعل الأمر يوحي بأنهما طاعتان متكاملتان.
4 – طاعة أولي الأمر في الآية مقيدة وليست مطلقة، ونأخذ هذا التقييد من صياغة الآية: (أَطِيعوا الله وَأَطِيعوا الرسول وَأولي الْأمْرِ مِنْكُمْ)، فقد عطف أولي الأمر على رسول الله عليه السلام، فكانت طاعتهم مستمدةً من طاعة رسول الله عليه السلام، ولو كانت طاعتهم مستقلةً مطلقةً عامة لكرر فعل الأمر كما كرره عند الأمر بطاعة رسول الله عليه السلام.
5 – أولو الأمر في الآية مخصوصون متميزون بصفاتٍ خاصةٍ، منها:
(أ) هم مطيعون لله ومطيعون لرسوله وهم منفذون لأوامر الله، مطبقون لسنة رسوله عليه السلام، وهم يستمدون حقهم على الناس في وجوب طاعتهم من طاعتهم هم لرسول الله.
(ب) هم من المؤمنين المسلمين المطيعين لله ولرسوله، ولا يكونون منهم إذا هم عصوا أوامر الله ورسوله، أو حكموا بغير شرع الله وسنة رسوله (وأولي الأمر منكم).
6 – إن طاعة المؤمنين لأولياء الأمور العادلين الصالحين طاعةٌ مبصرةٌ، ويجوز أن يتوقف المؤمنون -أحياناً- في طاعة الحاكمين المؤمنين، ويجوز أن ينازعوهم ويخالفوهم، ويجوز أن يعارضوهم ويختلفوا معهم لأن الآية تقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ). وكثيراً ما كان المسلمون السابقون وأولو الحَل والعقد فيهم يخالفون حكامهم وينازعونهم ويناقشونهم.
7 – تُبين الآية للحكام والمحكومين طريق حل النزاع بينهم، وتدلهم على المرجع الذي يرجعون إليه ويحتكمون، عند الاختلاف والتنازع، إنها توجب عليهم جميعاً رد الأمر المختَلف فيه إلى الله ورسوله، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله.
ولا تمنح الآية الحكام حق إعلان حالة الطوارئ، وفتْح أبواب السجون والمعتقلات، وكبت الحريات، وتكميم الأفواه، وتعطيل القوانين، والقبض على المخالفين والمعارضين، وتعذيبهم، ومحاربتهم في إنسانيتهم وحريتهم ورزقهم وأولادهم وأعراضهم، واغتيالهم وإعدامهم، بل توجب عليهم سماع الرأي المخالف، والاحتكام مع صاحبه إلى الحق، والرجوع عن الخطأ إلى الصواب، ولو كان عند المخالف.
8 – هذا هو الخير والصواب، وهذا هو طريق السعادة والعدل، إن الحاكم عندما يلتزم بتوجيهات الآية، يكون حاكماً صالحاً عادلاً، ويكون حكمه خيراً له وللمحكومين:
المبادئ التي يقوم عليها دستور الدولة
قال الإمام أبو الأعلى المودودي عن هذه الآية:
” إنها تحدد المبادئ التي يقوم عليها دستور الدولة، حيث توضح ست نكات دستورية هي:
1 – طاعة الله ورسوله مقدمة على أية طاعة أخرى.
2 – طاعة أولي الأمر تأتي تحت طاعة الله ورسوله.
3 – أن يكون أولو الأمر من المؤمنين.
4 – للناس حق منازعة الحكام والحكومة.
5 – إن الفصل في النزاع هو قانون الله ورسوله.
6 – ضرورة أن توجد في نظام الخلافة هيئةٌ حرةٌ، مستقلةٌ عن نفوذ الشعب وتأثير الحكام، لتقضي في النزاعات طبق القانون الأعلى قانون الله ورسوله “.
ثلاثة شروط لابد من توفرها في الحكام
وذكر الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه ” النظام السياسي في الإسلام ” ثلاثة شروط لا بد من توفرها عند الحكام لتجب طاعتهم، وعندها نطبق الآية عليهم:
1 – أن يكونوا مطبقين لأحكام الشريعة. فإذا لم يطبقوها فلا طاعة لهم، بل تحرم طاعتهم.
2 – أن يحكموا بالعدل بين الناس. فإذا لم يفعلوا ذلك فلا طاعة لهم.
3 – ألا يأمروا الناس بمعصية. فإذا أمروا بمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة.
متى تكون طاعة ولي الأمر واجبة؟
ونقل أبو فارس قول الإِمام ابن حجر في فتح الباري: ” ومن بديع الجواب قول بعض الناس التابعين، لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له:
أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: (وَأولي الأمر منكم)، فقال له: أليس قد نزعت عنكم الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
وقال الطيبي: أعاد الفعل في قوله: (وأطيعوا الرسول) إشارة إلى استقلال الرسول عليه السلام بالطاعة، ولم يُعده في أولي الأمر، إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته، ثم بين ذلك بقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ). كَأنَّهُ قيل: فإن لم يعملوا بالحق فلا تطيعوهم، وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله.
وروى أبو عبيد القاسم بن سلاّم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ” حق على الإمام أن يَحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقه على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا “.
وقال الأستاذ سيد قطب في تفسير الآية: ” والنص يجعل طاعة الله أصلاً، وطاعة رسوله أصلاً كذلك، بما أنه مرسلٌ منه، ويجعل طاعة أولي الأمر منكم تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله، فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرر أن طاعتهم مستمدةٌ من طاعة الله وطاعة رسوله، بعد أن قرر أنهم منكم بقيد الإيمان وشروطه.
وطاعة أولي الأمر منكم بعد هذه الآية والتقريرات كلها في حدود المعروف من شرع الله، والذي لم يرد نصٌّ بحرمته، ولا يكون من المحرم عندما يُرَد إلى مبادئ شريعته عند الاختلاف فيه، والسنة تقرر حدود هذه الطاعة على وجه الجزم واليقين.
في الصحيحين من حديث الأعمش: ” إنما الطاعة في المعروف “.
وفيهما من حديث يحيى القطان: ” السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة “.
وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: ” ولو استعمل عليكم عبد، يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا “.
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله، أميناً على دينه، أميناً على نفسه، ويجعله أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة. ولا يجعله بهيمة في القطيع تُزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع “.
المصدر
” تصويبات في فهم بعض الآيات” للشيخ صلاح الخالدي، ص212-218.
اقرأ أيضا
تصويبات في فهم بعض الآيات: (ادع إلى سبيل ربك)
تصويبات في فهم بعض الآيات: فاتقوا الله ما استطعتم