يصاب العبد بالكروب إذا ما انحرفت نفسه عن ربه ولو طرفة عين، والخروج من الكروب والسلامة منها بسلامة القلب لله تعالى مجرّدا قصده وطلبه وطاعته ومحبته لربه.
مقدمة
من أعظم مراتب العبودية لله تعالى تجريد وتحقيق التوحيد لله تعالى وترك الشرك، أصغره وخفيه، ودقيقه وجليله، والاعتراف بالعبودية والرجوع إليها ونفى التعلق بغير الله تعالى ونفض الآلهة المتزاحمة في النفس والاستعاذة من شرها ومن شر ما توجبه. وهو سبب عظيم لتفريج الكروب.
فمن دعاء الكرب كما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كربه أمر، كان يقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السَّماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم». (1رواه أحمد والبخاريّ ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما)
والعلاقة بين الحديث وبين تفريج الكروب واضحة، أنه لما كان سبب الكروب ما علمه المؤمن من انحرافه في طاعةٍ أو رغبةٍ أو رهبة أو غيرها من العبوديات لغير الله تعالى، أو ثمة مخالفة لأمر الرب تعالى، أو الغفلة أو النسيان أو غلبة شيء من آفات النفس ومقتضياتها وعوارضها البشرية وضَعْفها والتي لا يخلو منها أحد ـ لما كان الأمر كذلك؛ كان العلاج والشفاء في الخروج من التأله لغير الله، وإفراد الله تعالى بالألوهية، فالإله هو المحبوب المطاع المرجوّ المَخُوف، وليس المراد مجرد الإقرار بوجود الله فقط؛ فإن هذا لا يكفي.
فالدواء الموصوف في الحديث هو خلوص القلب من حب ومن إرادة ما سوى الله سبحانه وتعالى؛ فيتوجه بحبه وإرادته لله عز وجل وحده، كما يتوجه بطاعته وتعظيمه لله وحده، والتخلص من أن ينظر قلبك إلى غيره، أو أن يتعلق بسواه، أو أن يقصد غيره، أو أن يهتم بأمر غيره، أو أن يسعى لغيره، كما يعني التخلص من الكِبْر والعُجْب والافتخار والبغي وغيره من منغصات العبودية المنافية لها؛ فكل هذا يَقدح في كمال التوحيد وفي تجريده لله تعالى، ولذا فهي سبب المنغصات لحياة الإنسان؛ وفي هذا قال تعالى: ﴿لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا﴾ [الإسراء:22] فالخذلان والذم وما يتبعهما من المنغصات تصيبُ العبد بقدر ما التفت لغير ربه تعالى.
لذلك كان إخلاص وتجريد كمال التوحيد لرب العالمين سبحانه وتعالى هو سبب تفريج الكَرب لأنه علاج مباشر للسبب المنغص.
معنى صفتَي العظمة والحلم لله تعالى
ونلاحظ في الدعاء أنه قد ذكر فيه صفتي «العظيم والحليم».
فـصفة «العظيم» للدلالة على صفات العظمة والجلال والكبرياء، وهذه تقتضي منك عبودية الرهبة والخوف منه سبحانه وتعالى.
وصفة «الحليم» للدلالة على صفات الجمال والكمال والتحبب إلى الخلق، وهذه تقتضي منك وتوجب لك عبودية الرغبة والحب له سبحانه وتعالى.
فيجتمع لك رغبتك إليه ورهبتك منه سبحانه، تعظيمك إياه وحبك له سبحانه وتعالى؛ فيكون حبًا بإجلال، وهذا هو الحب النافع للعبد، يقول ابن القيم رحمه الله:
“..وفي هذا قال عمر «نِعْم العبد صهيب، لو لم يخفِ الله لم يَعْصِه» يعني أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته، فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة؛ وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أُنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمّر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه. وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”. (2طريق الهجرتين، جـ 1 – ص 409)
لا تكلني الى نفسي، مع تجريد التوحيد
وفي الدعاء الآخر «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت». (3رواه أبو داود، ج4، ص 324، وحسنه الألباني)
وهذا الدعاء العظيم اشتمل على أمرين عظيمين:
- التأله له وحده.
- ومعه الاستعاذة من أن يوكله ربه لنفسه طرفة عين.
فأن يوكَل العبد لنفسه لحظة زمنية خاطفة هذا أمر جدير بالاستعاذة..! وجدير أن يخافه العبد..! لأن فيها هلاكه، والنجاة أن يكون شديد التعلق بربه ملحّا في طلب ولايته وكفايته مستعيذا أن يُخذَل فيُترك لنفسه أقل ما يتصور من الزمن.
البراءة من الشرك سبب لتفريج الكروب
وفى دعاء آخر جاء في تفريج الكَرب نفس المعنى، ففي الترمذي قال، صلى الله عليه وسلم،
لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: «ألا أعلمك كلمات تقولِهنّ عند الكَرب؟ الله الله ربي لا أشركُ به شيئاً». (4رواه الترمذي)
وعلاقة هذا بالكرب هو أنك لما قصدت غيره أو تعلقت بسواه ولو أدنى تعلق أو التفات ولو كان خفيًا بهوى مخالف، كان هذا هو سبب الاضطراب في حياتك.
واستقامة الأمور هو أن تكون خالصًا سالمًا لله سبحانه وتعالى، ولذلك فُسِّر قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:81]، بـالقلب الذي سلم من الشرك كبيره وصغيره، فسلِم من قَصْد غير الله عز وجل؛ يقول الحافظ ابن كثير:
“سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
وقال مجاهد والحسن وغيرهما: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ يعني: من الشرك. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب المنافق مريض”. (5تفسير ابن كثير، جـ 3، ص 451)
ويقول الطبري:
“وقوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، يقول تعالى ذِكْره: “إذ جاء إبراهيم ربه بقلب سليم”: من الشرك مخلص له التوحيد.
كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، واللهِ من الشرك.
حدثنا محمد قال: ثنا أحمد قال: ثنا أسباط عن السدي في قوله تعالى: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، قال: سليم من الشرك…». (6تفسير الطبري، جـ 10، ص 499)
ويقول القرطبي:
“وقال جل وعز: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أي: لم يشرك به قط”. (7تفسير القرطبي، جـ 7، ص 26)
وفي هذا الدعاء نصّ على نفي الشرك «لا أشرك به شيئا» وهو نفس معنى الحديث الآخر «لا إله إلا الله العظيم الحليم..» إلى آخر الدعاء.
لماذا دعوة يونس سبب لتفريج الكرب..!
أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن دعوة يونس، عليه السلام، سبب لتفريج الكروب. والمعنى وراء هذا يوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو جارٍ على المأخذ السابق بيانه؛ يقول:
“وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره «دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته» سَمّاها دعوة لأنها تتضمن نوعي الدعاء فقوله «لا إله إلا أنت» اعتراف بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يُدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو.
وقوله «إني كنت من الظالمين» اعتراف بالذنب وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب وتارة يسأل بصيغة الخبر؛ إما بوصف حاله (8كقول أيوب عليه السلام ﴿رب إني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين﴾ وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337) وإما بوصف حال المسؤول (9كقوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الدعاء الحمد لله» وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337) وإما بوصف الحالين (10كالدعاء الذى علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر «اللهم إني ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337)
«فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب؟
فيقال لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي؛ فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم وهو الذي أدخل الضر على نفسه فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه…
“وهذا يتبين بالكلام على قوله «سبحانك» فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب؛ يقول أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب، بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي…
“فقوله «لا إله إلا أنت» فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد وكونه يستحق أن يُعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع. والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل …
“وقوله «لا إله إلا أنت» تحقيق لتوحيد الإلهية؛ فإن الخير لا موجِب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والمعوِق له من العبد هو ذنوبه…” (11مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 343)
خاتمة
ذلك فقه المسألة؛ فالشرور سببها الذنوب، والذنوب تابعة لتلعق القلب بغير الله أو الغفلة عنه. وتجريد التوحيد يصحح القلب تبصرة وتصحيحا للإرادة.
والسعيد من رزقه الله؛ فالشأن شأن اصطفاء يخص الله تعالى به أسعد خلقه.
…………………………
الهوامش:
- رواه أحمد والبخاريّ ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- طريق الهجرتين، جـ 1 – ص 409.
- رواه أبو داود، ج4، ص 324، وحسنه الألباني.
- رواه الترمذي.
- تفسير ابن كثير، جـ 3، ص 451.
- تفسير الطبري، جـ 10، ص 499.
- تفسير القرطبي، جـ 7، ص 26.
- كقول أيوب عليه السلام ﴿رب إني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين﴾ وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337.
- كقوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الدعاء الحمد لله» وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337.
- كالدعاء الذى علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر «اللهم إني ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» وراجع بتفصيل مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 337.
- مجموع الفتاوى المجلد العاشر، ص 237- 343.