عندما نطالب المشايخ والعلماء والنخب المسلمة بالحديث عن الشريعة فهذا لا يعني مجرّد رفع شعارها، ولا الدخول إلى المعترك السياسي باسمها دون السعي إلى تفعيل مضمونها.
المطالبة بالشريعة… يتجاوز رفع الشعارات
عندما نطالب المشايخ والعلماء والنخب المسلمة بالحديث عن الشريعة فهذا لا يعني مجرّد رفع شعارها، ولا الدخول إلى المعترك السياسي باسمها دون السعي إلى تفعيل مضمونها.
المأزق الحقيقي: تعطيل قاعدة “الحكم بما أنزل الله”
بل الأمر أنّ القاعدة الكلّية للشريعة تعاني من مأزق خطير في عصرنا وخصوصا في المجال العام، هذه القاعدة هي قبول شرع الله ورفض ما سواه، أي الانقياد لِما شرعه الله خالق الإنسان والعالم سبحانه من حلال وحرام ورفض التشريعات المضادّة له، أي التي تقرر أحكامًا مختلفة عمّا شرعه الله للنّاس في محكم كتابه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا يسمّى “تبديل الشريعة”، وأمثال ذلك في قوانين بلادنا العربية والمسلمة كثير جدا، وهو وصمة عار دائمة ونكسة كبيرة للأمة، وعدم الحديث عنه ومحاولة تغييره خصوصا في البلدان التي وفّقها الله بالتحرر من الطواغيت أمر غير مفهوم ولا يسوّغه الخوف من الأعداء.
عبرة التاريخ: ماذا حدث لأهل الكتاب عندما بدلوا الشرائع؟
وهذا الفعل هو كفعل الذين قصّ الله علينا نبأهم من أهل الكتاب، الذين بدّلوا شريعة الرجم للزاني المحصن بالجلد والتحميم، فنزلت الآيات ببيان كفرهم الأكبر. وهذا وحده كافٍ لينذرنا، لا لنقول: نحن كفّار إذن. بل لندرك أن عدم استنكار هذا التعطيل الجذري لقاعدة الشريعة في مجالنا العام (التشريع والقانون) مع كثير من فروعها أمر كارثي ينذر – إن لم نسع إلى تداركه على قدر الاستطاعة – بالبلاء الشديد واستمرار ضعف هذه الأمة وانتكاساتها، بل يعجب المرء كيف يرجو الإنسان توفيقًا من الله الذي أزال عنه أذى الطغيان وهو لا يسعى إلى إعلاء شريعته؟!
الربط المحكم: بين التوحيد والتمكين في الميزان القرآني
لقد ربط كتاب الله عزّ وجلّ ربطًا محكمًا بين إفراد الله بالعبادة، أي التوحيد (وفي صلبه الانقياد للشرع كما هو معلوم من الدين بالضرورة) وبين حصول الاستخلاف والتمكين والأمن لهذه الأمة، قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55).
التقصير الكبير: حين تغيب الشريعة عن أجندة النخب
وأي مسلم لا تهزّه هذه الآية وأمثالها، ولا يشعر بفقدان شيء خطير ينبغي أن يكون على أجندته، ويكتفي بالحديث عن الحريات والتنمية والتحديث وأمثال ذلك من القضايا الدنيوية؛ فهو مقصّر تقصيرًا كبيرًا في دينه، لأنّ أساس دينه مبني على التوحيد، وقد خُلق الإنسان لعبادة الله وحده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فإذا كانت هذه القضية غائبة عن المسلمين (باستثناء الشعائر والمعاملات الفردية) ولم يصدح أحد باستنكار ذلك ولم يسع أحد إلى استدراكه ولم يتعاون المسلمون على ذلك؛ أَوْشَك أنّ يعمّهم الله بعذاب أو شقاء كما تخبرنا كثير من النصوص القرآنية والنبوية!
العبودية الحقة: ليست في الشعائر فقط بل في الانقياد للحكم
قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64). وقال الإمام فخر الدين الرازي خلال تفسيرها: “إذا كان الخالق والمنعم بجميع النِّعَم هو الله، وجبَ أن لا يُرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلّا إليه، دون الأحبار والرهبان”.
بين فرحة حفَّاظ القرآن وغياب حفَّاظ شريعته
وفي الحقيقة أفرح كثيرا حين أرى احتفالات حفّاظ القرآن لِما تبعث من روح إسلامية، خصوصا حين تُنشر مقاطع التصوير الجوّي مع أنشودة “أيها التاريخ عدنا” (بصرف النظر عن عدم تأييدي للاحتفال العام بحافظ كتاب الله)، لكن العودة الحقيقية لأمجاد الأمة لا تكون إلا بتفعيل ما في هذا القرآن من شريعة لا باستظهاره غيبا فحسب. نحن في حاجة إلى حفّاظ لشريعة القرآن أضعاف ما نحتاج من مستظهرين لآيات القرآن.
المصدر
صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، على منصة ميتا.
اقرأ أيضا
هل اخترع الإسلاميّون مفهوم الشريعة؟