إن من أهم عوامل الثبات والنصر أن يرى الجندي قائده يتلقى الصعاب فيسيطر عليها ويتغلب عليها، فيكون قدوة له، ويتأمن عامل نفسي مهم، هو عامل الثقة بالقائد، وقد كان صلى الله عليه وسلم هو القائد في كل هذه الميادين وعنه تؤخذ الدروس فيها .
٦ – العتب في أمر القسمة
رأينا كيف بدأ صلى الله عليه وسلم حين توزيع الغنائم بالمؤلفة قلوبهم، وكانت لهم الأعطيات الكبيرة، مما جعل في نفوس كثير من المسلمين شيئاً من العتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خاصة وأن هؤلاء الناس لم يخرجوا للقتال، ولم يشاركوا فيه، والعطاء في الغنائم – أصلاً – هو تعبير عن تقدير الجهد المبذول من المعطى، فهو وسام شرف وتقدير قبل أن يكون كسباً مادياً، ولهذا لما أعطى كلا من عيينة والأقرع مائة من الإبل وأعطى العباس بن مرداس دون المائة قال :
أتجعل نهبي ونهب العبيد … بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس … يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما … ومن تضع اليوم لا يرفع
فأكمل له صلى الله عليه وسلم المائة1(24) أخرجه مسلم (١٠٦٠)، والعبيد: اسم فرسه..
وإذا كان للرسول صلى الله عليه وسلم ما يبرر فعله، فقد خفيت الحكمة على الناس وانطلقت الكلمات تعبر عن العتب، ونستطيع أن نرى – من خلال معالجته للأمر – أن الناس في هذا كانوا فئات ثلاث:
– الأنصار وقد رأينا صراحة سعد في ذلك وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
إن الأنصار من هم في نصرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وما إن سمع بمقالتهم حتى أمر بجمعهم وحدهم ليتحدث إليهم شارحاً لهم الأسباب، والحكمة، ويوضح ما خفي عليهم، إنه الحديث الخاص، ولذا قال قبل بدء حديثه: (فيكم أحد من غيركم؟) قالوا لا إلا ابن أختنا، قال: (ابن أخت القوم منهم)2(25) متفق عليه (خ٣٥٢٨، م١٠٥٩). . ثم عدّد فضل الله عليهم … ثم قال ألا تجيبون ..ولقد كان جوابهم المن لله ولرسوله، كانوا في غاية الأدب، ولما لم يجيبوا بما لهم من أثر في نصرة الإسلام، أوضح لهم ذلك بقوله : (أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك …) إنه لا ينسى فضلهم وإذا كان يمنعهم العطاء اليوم فهي مأثرة تضاف إلى سجل مآثرهم. وقد أزال الغشاوة عن العيون بقوله: (ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟) تلك هي القسمة في حقيقتها، فإذا بهم يُخصون بالحظ الأوفر، وإذا بمقاييس المادة تتحطم دفعة واحدة ليشعر القوم الخطأ الذي ارتكبوه والخجل الذي ألم بهم فإذا بهم ما يملكون أنفسهم من البكاء حتى اخضلوا لحاهم، وهم بين الأسف لما بدر منهم وبين الفرح بتلك القسمة التي غابت حقيقتها عن أذهانهم .
– الفئة الثانية: وهم ممن كان لهم بلاء ولم يعطوا. روى ابن إسحاق أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه)3(26) ابن هشام ٤٩٦/٢ ..
وفي مثل هذا ما رواه البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه، فقال: (إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم وأكل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب) قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم4(27) البداية ٣٦١/٤..
هذا فريق لم يطلب بحقه ولم يعتب، ولكن بعضهم الآخر وجده أهلاً لأن يعطى، كما أعطي غيره فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علة ذلك .
الفئة الثالثة : لم ينطلق في عتبه من منطلق الإيمان، وإنما كان الدافع له هو النفاق ووجدها فرصة سانحة ليشكك في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال جابر بن عبد الله: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل قال: (ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل). فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)5(28) رواه مسلم برقم (١٠٦٣).، وإزاء هذا الفريق من الناس كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصبر كما ورد ذلك في رواية عبد الله بن مسعود: “فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها ولا أريد فيها وجه الله . قال : فقلت : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف6(29) كالصرف أي أحمر شديد الحمرة، كما جاء في الرواية الأخرى: (واحمر وجهه).، ثم قال: (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ ) ثم قال : (يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)7(30) متفق عليه (خ٣١٥٠، م١٠٦٢)..
إن الهدف الذي قصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك التوزيع للغنائم إنما يرمي للغايات البعيدة في سبيل مصلحة الإسلام، وما كان ينبغي أن يفصح عما في نفسه والأسباب الداعية لذلك، ولو فعل لبطلت الغاية المتوخاة التي يرمي إليها .
إن إمعان النظر في النفسيات التي أغدق عليها صلى الله عليه وسلم العطاء، يُظهر أن العلاج الوحيد لإصلاحها، هو ما فعله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على الحكمة التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم وعلى معرفته بالرجال.
أما ما لاقاه صلى الله عليه وسلم من الأذى في سبيل ذلك، فإنه سبيل الأنبياء والمرسلين كما عبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (يرحم الله موسى …).
۷ ـ ما خص الأنصار من الغنيمة
نتساءل بعد ما سبق، هل أصاب الأنصار شيء من الغنيمة؟
ورد في البخاري ومسلم النصان التاليان (فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئاً) (قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً)8(31) متفق عليه (خ ٤٣٣٧ ، م١٠٥٩)، (٤٣٣٠ ، م١٠٦١).، ويلاحظ الإطلاق في نفي العطاء في كل من النصين. وقد ورد ما يشعر بتقييد هذا الإطلاق، ففي رواية البخاري ومسلم (فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس)9(32) متفق عليه (خ٤٣٣٠ ، م١٠٦١).، وفي رواية ابن إسحاق: (لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا)10(33) سيرة ابن هشام ٤٩٨/٢.، فكان العتب موجه إلى تلك الأعطيات الكبيرة، فهو لا يعني أنهم حرموا نصيبهم كمجاهدين لهم حقهم من الغنيمة ومما يؤكد تقييد إطلاق الروايتين الأوليين، أن أبا طلحة أعطي سلب القتلى الذين قتلهم، وكذلك أعطي أبو قتادة سلب قتيله وكلاهما أنصاريان.
كما يؤيد أنهم أخذوا استحقاقهم أنهم تنازلوا عن نصيبهم من السبي حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فلو لم يكن بأيديهم نصيبهم من القسمة لما كان لتنازلهم معنى.
وقد أورد البخاري رحمه الله حديث عتب الأنصار – السابق – في كتاب فرض الخمس، وبوّب له بقوله: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه .
قال في الفتح: واختلف من أين كان يعطي المؤلفة؟ فقال مالك وجماعة من الخمس، وقال الشافعي وجماعة من خمس الخمس11(34) فتح الباري ٢٥٢/٦.
وبهذا يتضح أن تصرفه كان من الخمس وأن نصيب المجاهدين وزع عليهم كل حسب استحقاقه.
8- القيادة…. والأفراد
إنه لمن مقاييس تقدم الأمة ورقي حضارتها عناية القيادة بالأفراد أو عناية المنهج بمعتنقيه، وقد كان الإسلام صاحب القدح المعلّى في هذا الميدان – كما هو في كل ميدان – وقد رأينا كيف بعث الرسول صلى الله عليه وسلم جيش مؤتة، انتقاماً للاعتداء على الحارث بن عمير الأزدي.
وبین أيدينا صورة أخرى لا تقل شأناً عن سابقتها، ذلك أن كلاً منهما تطبيق للمنهج .
قال سهل بن الحنظلية رضي الله عنه: إنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين … ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله، قال: فاركب، فركب فرساً له فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن12(35) من الغرور : أي لا يأتينا العدو من قبلك على غفلة. من قبلك الليلة)، فلما أصبحنا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: (هل أحسستم فارسكم؟) قالوا: يا رسول الله ما أحسسنا، فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته قال: (أبشروا جاء فارسكم) فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم13(36) أخرجه أبو داود (۹۱٦، ۲۵۰۱)..
أرأيت إلى هذا الاهتمام البالغ من الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى جعل يلتفت في صلاته، وما كان ذلك ليحدث إلا لأمر هام، ثم إنه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : (أبشروا فقد جاء فارسكم)، إنها الكلمة التي يستعملها صلى الله عليه وسلم في إخبارهم بما يسرهم من الأمور العظيمة.
تلك أهمية الفرد في المجتمع الإسلامي، إنه ليس كماً مهملاً، ولا رقماً في سجل، ولا بزالاً في آلة، يستغنى عنه عند الضرورة ليؤتي بغيره، إنه بعض التفسير للمنهج الإلهي في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[الإسراء:٧٠].
۹ – عتقاء الله
لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف نادى مناديه : أيما عبد نزل إلينا فهو حر فخرج إليه ثلاثة وعشرون رجلاً منهم أبو بكرة فأسلموا وأعتقهم صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله، فلما أسلمت ثقيف تكلموا في أرقائهم فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أولئك عتقاء الله)14(37) شرح المواهب ،۳۲/۳ ، والبداية ٣٤٧/٤، وابن هشام ٢/ ٤٨٥..
ويستوقفنا في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم دفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله، إنها نقلة كبيرة بين عالم الرق وعالم الحرية، تحتاج في كثير من الأحيان إلى المساعدة والأخذ باليد ليتعلم أسلوب الحياة الجديدة حيث يتصرّف المرء من تلقاء ذاته، بعيداً عن أوامر سيده، إنه أصبح مسؤولاً عن فعله وتصرّفه، بعد أن كان مجرد أداة لتنفيذ الأوامر، إنه بحاجة إلى التدرّب على نمط الحياة الجديدة، فأوكل الأمر إلى من يقوم به، أضف إلى ذلك أنه بحاجة إلى ألا يشعر بوطأة الحياة ومسؤولياتها مباشرة وأنه بحاجة إلى فترة نقاهة مما كان فيه فلا بد أن ينزل ضيفاً على المسلمين ريثما يتأمن له المسكن ومورد الرزق.
هذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطع الغرب أن يتنبه إليه أو يفطن له بعد عشرة قرون، فالعبيد الذين حرّرهم لنكولن، بالتشريع عادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا15(38) عن شبهات حول الإسلام لكاتبه الأستاذ محمد قطب.، إنه ظن أن التحرر يحصل بجرة قلم ونسي أنه انتقال من وضع إلى آخر، وأن هناك عقبة تحتاج إلى المساعدة أثناء اجتيازها .
١٠ – القيادة في مكة
رأينا كيف استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد، وذلك قبل عودته إلى المدينة. وعتاب هذا من مسلمة الفتح، وكان شاباً، عمره لم يبلغ الثلاثين، وهذه خطوة من الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانت تتوقعها قريش، فأين دور المشيخة من أمثال أبي سفيان وحكيم بن حزام؟
إن سجل هؤلاء حافل بعداء الإسلام والكيد له، وإسلامهم لم يكن عن رغبة، ولقد رأيناهم في صفوف المؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم العطايا الكبيرة ليساعدهم على استقرار الإيمان في قلوبهم، إنهم لم يكونوا في وضعهم هذا ليصلحوا ممثلين للرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ومع هذا لم يكن باستطاعتهم أن يرفعوا أصواتهم في الاعتراض؛ لأن ماضيهم غير مشرف، ولأنهم في حاضرهم قد لوى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤوسهم بأعطياته، وهكذا أصبح هؤلاء كغيرهم من الناس، مسلمين من رعايا مكة، أميرهم عتاب بن أسيد.
أما عتاب فهو شاب لم يكن في سجله تلك المواقف في محاربة الله ورسوله، وقد عرف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم صدق إسلامه، ولهذا استخلفه على مكة أثناء غيابه في غزوتي هوازن والطائف.
الهوامش
(24) أخرجه مسلم (١٠٦٠)، والعبيد: اسم فرسه.
(25) متفق عليه (خ٣٥٢٨، م١٠٥٩).
(26) ابن هشام ٤٩٦/٢ .
(27) البداية ٣٦١/٤.
(28) رواه مسلم برقم (١٠٦٣).
(29) كالصرف أي أحمر شديد الحمرة، كما جاء في الرواية الأخرى: (واحمر وجهه).
(30) متفق عليه (خ٣١٥٠، م١٠٦٢).
(31) متفق عليه (خ ٤٣٣٧ ، م١٠٥٩)، (٤٣٣٠ ، م١٠٦١).
(32) متفق عليه (خ٤٣٣٠ ، م١٠٦١).
(33) سيرة ابن هشام ٤٩٨/٢.
(34) فتح الباري ٢٥٢/٦
(35) من الغرور : أي لا يأتينا العدو من قبلك على غفلة.
(36) أخرجه أبو داود (۹۱٦، ۲۵۰۱).
(37) شرح المواهب ،۳۲/۳ ، والبداية ٣٤٧/٤، وابن هشام ٢/ ٤٨٥.
(38) عن شبهات حول الإسلام لكاتبه الأستاذ محمد قطب.
المصدر
كتاب: “من معين السيرة” ص458-465.
اقرأ أيضا
وجوب الجهاد لتحرير الأقصى وفلسطين