إن التوحيد الخالص يصنع الأعاجيب، فمتى استقر في القلب ظهرت آثاره واضحة في المعاملة والسلوك، فللعقيدة أثرها على أخلاق الإنسان وسلوكه، باستقامة أو اضطراب. وانحراف الخلق مع العقيدة الصحيحة أمر لا يستقيم. ثمة خلل.
دعوات الأنبياء: التوحيد والسلوك القويم
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمكْيَالَ وَالْميزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84].
إنه أحد نماذج دعوات الأنبياء التي تضمنت الدعوة إلى التوحيد بالتوازي والتزامن مع دعوتهم إلى السلوك القويم، ليظل هذا الارتباط السرمدي بين توحيد الله عز وجل، وبين استقامة الخلق والجارحة.
فكل الأنبياء قد جاؤوا بذات النهج، وقد حكى القرآن عن لوط عليه السلام إنكاره على قومه شركهم ودنسهم في آن واحد، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمينَ} [الشعراء:161-165].
الجانب الأخلاقي وارتباطه الوثيق بالعقيدة
فلا شك أن التوحيد الخالص لله يثمر الخلق القويم والسلوك الرشيد، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز عن يوسف عليه السلام بعدما راودته امرأة العزيز: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمخْلَصِينَ} على قراءة من قرأها بكسر اللام، ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله، وخلصه من السوء والفحشاء”.
التوحيد الخالص سببًا للنجاة من فتنة النساء
فيوسف عليه السلام وامرأة العزيز كلاهما بشر، رُكبت فيه الغريزة والشهوة، ومع ذلك كان التباين بينهما في السلوك والاستجابة لنداء الغريزة شاسعا، عقيدة التوحيد وحدها كانت الحد الفاصل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وَلِهَذَا لمَّا كَانَ يُوسُف مُحِبًّا لِلَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لَمْ يُبْتَلَ بِذَلِكَ بَلْ قَالَ تَعَالَى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمخْلَصِينَ }، وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَكَانَتْ مُشْرِكَةً هِيَ وَقَوْمُهَا فَلِهَذَا اُبْتُلِيَتْ بِالْعِشْقِ وَمَا يُبْتَلَى بِالْعِشْقِ أَحَدٌ إلَّا لِنَقْصِ تَوْحِيدِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ الْمنِيبُ إلَى اللَّهِ الْخَائِفُ مِنْهُ فِيهِ صَارِفَانِ يَصْرِفَانِ عَنْ الْعِشْقِ: أَحَدُهُمَا إنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ وَأَطْيَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَبْقَى مَعَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُهُ، وَالثَّانِي خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمضَادَّ لِلْعِشْقِ يَصْرِفُهُ”.
ارتباط العقيدة بالسلوك في أقوال ومواقف علماء أهل السنة
وتجد إدراك هذا الارتباط حاضرًا في أقوال ومواقف علماء أهل السنة، قال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ” ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال الحسن: نِعْمَ العدة، لكن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة“.
يعلق ابن رجب الحنبلي على ذلك بقوله: “لأن الشعراء قد يقعون في القذف بسهولة ويحصل في شعره قذف، يهجو فيقذف، فيقول الفرزدق: أنا أعددت شهادة أن لا إله إلا الله لأجل يوم القيامة والحساب، قال: نِعْم العدة، ولكن للا إلا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة. إذاً معناها أنه إذا قذف المحصنة، لا يكون قد قام بشروط لا إله إلا الله، فعدته ناقصة”.
ومن أوجه ارتباط العقيدة بالسلوك، أنهما خاضعان معًا لحقيقة الإيمان، فالإيمان كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “قول باللسان واعتقاد بالجَنان وعمل بالأركان”، إذن فالسلوك والعمل جزء من ذلك الإيمان، وهو الثابت في الحديث المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان).
وفي الوقت ذاته، هذا السلوك القويم ثمرة لأصل الإيمان في القلب، تظهر على جوارح العبد وأخلاقه وتعاملاته بين الناس، كما قال الحسن البصري رحمه الله: “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل”.
المصدر
صفحة الأستاذة إحسان الفقيه على منصة x.
اقرأ أيضا
أثر العقيدة في توجيه السلوك والأخلاق
الأخلاق وصلتها بالعقيدة .. (1-2)
الأخلاق وصلتها بالعقيدة .. (2-2)