لا تواجه العلمانية المعاصرة مشكلة مع العبادات المحضة، ما دامت قاصرة على الشأن الفردي الخاص؛ وإنما المشكلة تكمن في الأحكام الشرعية حين تأخذ طابع الإلزام والعموم؛ لأن هذا ينافي الفلسفة العلمانية القائمة على الحرية والفردية، وهي أزمة خانقة لا يمكن حلها إلا بتنازل أحد الطرفين عن موقفه..
لماذا يرفضون شرع الله؟!
يتعلل المتردون على شريعة الله والتحاكم إليها بتعلات فارغة ومن وراء ذلك بواعثهم النفسية:
أ – باعث النفاق
تحت سلطة الشعور الإسلامي العام لدى جماهير شعوبنا المسلمة تختفي فئة من المرائين المنافقين الذين نهلوا من معين المستشرقين، وأرضعوا لبان الثقافة الغربية، التي توهن من شأن الشريعة الإسلامية، وتصم المعتصمين بها بالتأخر والرجعية، وهؤلاء يرون أن الغرب لم ينهض من كبوته إلا بعد أن نفض يده من الدين وأهله، حيث وقف رجال الكنيسة حجر عثرة في سبيل العلم والتقدم والمدنية، ويعتقدون أنه لا سبيل لنهضة أمتهم إلا بالعلمانية، أي الانسلاخ من الدين وتركه جانبا أسوة بالحضارة الغربية، متجاهلين الفوارق الواضحة بين طبيعة الإسلام وطبيعة المسيحية، فالإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة وإقامة الحضارة الإنسانية المتكاملة في جوانب الحياة المتعددة المادية والروحية والعقلية على أساس من توحيد الله تعالى والنظرة السديدة الصائبة إلى الكون والإنسان والحياة بما يحقق السعادة للبشرية كلها.
إن هؤلاء يتسنمون مراكز القيادة في الأمة بهذه العقيدة ويضعون نصب أعينهم الانسلاخ من شريعة الإسلام، أو من الدين كله، ويعتبرون أن إقامة الحدود وحشية لا تلائم عصر المدنية، ولا يجرءون على إعلان ردتهم وكفرهم حتى لا تنقم عليهم جماهير الشعوب المسلمة التي يحكمونها، وهم في حاجة إلى أن يتملقوها باسم الإسلام.
وحين يعاتبهم أحد يحتجون بأنهم ما أرادوا تحكيم القوانين الوضعية إلا لمصلحة الأمة، حرصا على تقدمها وازدهارها، ويبلغ بهم النفاق مبلغه حيث يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بصنيعهم هذا إلا الإحسان وذلك هو ما حكاه القرآن الكريم عن المنافقين؛ لأن النفاق هو النفاق في كل عصر (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء:61-63].
إنه لا مجال للعدول عن القرآن الكريم إلى كتاب آخر فضلا عن نظام للبشر، وإلا كان الامتراء (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام:114].
ب- خشية الناس والطمع في أعراض الدنيا
يتعارض الحكم بما أنزل الله مع شهوات المستبدين ورغبات الظالمين، وكثيرا ما يستولي هؤلاء على أزمة الحكم، ويقبضون بأيديهم على كل مرفق من المرافق للاستبداد بالأمور كلها، ويضربون بيد من حديد على الرأي الحر والفكر المستنير ما دام يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم.
ويضعف أهل الحق عن المجاهرة به والصمود في سبيله ويخشون بأس الظالمين، فيستكينون لهم وينصاعون لرغباتهم ويكتمون شريعة الله التي استحفظوا عليها، وقد يبلغ الضعف بهم مبلغه طمعا في عرض من أعراض الحياة الدنيا فيتملقون الطغيان، ويمالئون ذوي الشهوات، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويصدرون الفتاوى التي تبرر خروج الحكام عن شرعة الله، وتلتمس لهم المعاذير، ولذا نهى الله علماء اليهود الذين تهاونوا في تحكيم التوراة تحت تأثير هذه الدوافع: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44].
وفي ظل ذلك الجو الخانق يكثر سواد المضللين، وتختل موازين الحق، وتفسد قيم الحياة، وتقرير الحق والباطل، والهدى والضلال، لا يرجع إلى موازين الناس وأهوائهم، أو اصطلاحات المجتمع وقيمه، وإنما ذلك إلى الله وحده (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام:116-117].
ج- اتباع الهوى والتماس المعاذير
إن الوقوف عند حدود الشريعة جهاد لهوى النفس لا يصبر عليه إلا أهل الإيمان، وللنفس أهواؤها المختلفة، ونزعاتها المتباينة، وشريعة الإسلام تكبح جماح الأهواء والنزعات، ليستقيم سلوك المسلم على ما فيه خيره وخير الإنسانية، وأهواء الحكم أشد تسلطا على النفس وبعدا عن الحق، ومهما التمس الناس المعاذير لتبرير الخروج عن شريعة الله وتحكيم القوانين الوضعية، فإن باعث ذلك هو الهوى، والهوى وحده، وقد جرت سنة الله على اختلاف الناس في اتجاهاتهم ومذاهب حياتهم وسلطان الحق هو الذي يجمعهم على كلمة سواء، وليس سلطان الهوى وترضية النفوس، ولذا حذر الله تعالى رسوله من ذلك حتى لا يفتن عن شيء من حكم الله (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة:48] ثم قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:49-50].
د- كراهية الحق والرغبة في الظلم
عندما تمرض النفس وتقع أسيرة الهوى والشهوة، تعمى بصيرتها، فلا تنظر إلا بمنظار هواها، وهوى النفس لا يأتي عن طريق الحق والحكم بما أنزل الله، لأن الهوى غي وظلم، وقد فند القرآن الكريم أسباب كبرياء حكم الجاهلية، وإعراض ذويه عن حكم الله وحكم رسوله، وأبطل شبهها، وأرجع ذلك إلى كراهيتهم للحق، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [المؤمنون:68-70].
وذكر سبحانه وتعالى في موضع آخر طبيعة النفاق، واحتمالات سبب إعراض المنافقين عن حكم رسول الله إذا كان الحق عليهم، وأشارت الآيات إلى أن السبب الحقيقي هو رغبتهم في الظلم وهم يعلمون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يقضي إلا بالحق (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور:47- 50].
وطواغيت الأرض الذين يتحكمون في عباد الله بأهوائهم ومطامعهم وتعسفهم واستبدادهم يكرهون الإسلام لأنه الدين الحق ويتمردون على حكمه لأنه لا يقضي إلا بالعدل. وهم متجبرون ظالمون.
المصدر
مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول 1395هـ، ” وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها، مناع خليل القطان.
اقرأ أيضا
منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين
المعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة والأحكام الباطلة
الشرك في الحكم الشرعي والكوني سواء