خَلَق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن صورة وتقويم، كما كرّمه على الخلائق جميعها بما أنعم عليه من النّعم الكثيرة.

بعض نعم الله الظاهرة في جسم الإنسان

قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) [النحل:4]. وقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. ويضاف هنا قوله تعالى في سورة الانفطار: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار:6-8].

يتحدث صاحب «الظلال» رحمه الله تعالى عند هذه الآية فيقول: «إنه خطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظ إنسانيته، ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه، وربه الكريم يعاتبه هذا العتاب الجليل، ويذكره هذا الجميل، بينما هو سادر في التقصير، سيء الأدب في حق مولاه الذي خلقه فسواه فعدله.

إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة، الكاملة الشكل والوظيفة، أمر يستحق التدبر الطويل، والشكر العميق، والأدب الجم، والحب لربه الكريم، الذي أكرمه بهذه الخلقة، تفضلا منه ورعاية ومنة؛ فقد كان قادرا أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها؛ فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة، وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله.

وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء!

كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه

وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه، وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين، ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي: الجهاز العظمي، والجهاز العضلي، والجهاز الجلدي، والجهاز الهضمي، والجهاز الدموي، والجهاز التنفسي، والجهاز التناسلي، والجهاز اللمفاوي، والجهاز العصبي، والجهاز البولي، وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر .. كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها، وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس!

اليدان

“تقول مجلة العلوم الإنجليزية”: إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة؛ وإنه من الصعب جدا – بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف؛ فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا، وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول الضغط بقلب الورقة، واليد تمسك القلم وتكتب به، وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة، إلى سكين، إلى آلة الكتابة، وتفتح النوافذ وتغلقها، وتحمل كل ما يريده الإنسان، واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما»1(1) عن كتاب «الله والعلم الحديث» ، عبد الرزاق نوفل..

الأذن

و«إن جزءا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية (قوس) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر»2(2) عن كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان»..

العين

«ومرکز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء -وهي أطراف الأعصاب – ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا، والذي تعتبر حركته لا إرادية، الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع، فهو أقوى مطهر…»3(3) عن كتاب «الله والعلم الحديث»..

اللسان

«وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي؛ ولتلك الحلمات أشكال مختلفة؛ فمنها الخيطية والفطرية والعدسية، ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي، والعصب الذوقي، وتتأثر عند الأكل بالأعصاب الذوقية، فينتقل الأثر إلى المخ، وهذا الجهاز موجود في أول الفم، حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما وجد أنه ضار به، وبه يجد المرء المرارة والحلاوة، والبرودة والسخونة، والحامض والملح، واللاذع ونحوه، ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة، يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب، فكم عدد الأعصاب ؟ وما حجمها؟ وكيف تعمل منفردة، وتتجمع بالإحساس عند المخ؟»4(4) عن كتاب «الله والعلم الحديث»..

الجهاز العصبي

«ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم، وتتصل بغيرها أكبر منها، وهذه بالجهاز المركزي العصبي؛ فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم، ولو كان ذلك بتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم، وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف، وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية». .

الإعجاز في عملية الهضم

«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل، فإننا ندرك توا أنه عملية عجيبة؛ إذ تهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها!

فأولا نضع في هذا المعمل أنواعا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي، وندفعها بأي قدر من الماء…

ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة؛ وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة، تصبح غذاء لمختلف الخلايا، وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية، وتعني بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله.

إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيماوي، بصرف النظر كلية تقريبا عما نتناوله، معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية (أوتوماتيكية) لإبقائنا على الحياة، وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض، ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرا، وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان، كما تتلقاها الخلية المختصة!»5(5) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

«فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان. وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم. ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام!» .

الإدراك العقلي

وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير، ولكن هذه الأجهزة – على إعجازها الواضح – قد يشاركه فيها الحيوان في صورة من الصور. إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة بصفة خاصة: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) بعد ندائه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)؛ هذا الإدراك العقلي الخاص، الذي لا ندري كنهه؛ إذ إن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك، والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك!

هذه المدركات نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق، ولكن أين يختزنها! إنه لو كان هذا المخ شريطا مسجلا لاحتاج الإنسان في خلال الستين عاما التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاهد لكي يذكرها بعد ذلك، كما يذكرها فعلا بعد عشرات السنين!

ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة، والحوادث المفردة، والصور المفردة، ليجعل منها ثقافة مجمعة، ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم؟ ومن المدركات إلى الإدراك ؟ ومن التجارب إلى المعرفة؟

الروح

هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة، وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه، وليست أعلى مميزاته؛ فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله، هنالك الروح الإنساني الخاص الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود، وجمال خالق الوجود، ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود بعد الاتصال بومضات الجمال في هذا الوجود.

هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه -وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية؟!- والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية، حتى وهو على هذه الأرض، ويصله بالملأ الأعلى، ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود، وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد!

هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان، وهو الذي به صار إنسانا، وهو الذي يخاطبه باسمه: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ). ويعاتبه ذلك العتاب المخجل (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؛ هذا العتاب المباشر من الله للإنسان، حيث ينادیه سبحانه فيقف أمامه مقصرا مذنبا مغيرا غير مقدر لجلال الله، ولا متأدب في جنابه، ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى، ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور!

إنه عتاب مذيب؛ حين يتصور «الإنسان» حقيقة مصدره، وحقيقة مخبره، وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه، وهو يناديه ذلك النداء، ثم يعاتبه هذا العتاب: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ)»6(6) «في ظلال القرآن» (6/ 3848-3850)..

الهوامش

(1) عن كتاب «الله والعلم الحديث» ، عبد الرزاق نوفل.

(2) عن كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان».

(3) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(4) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(5) عن كتاب «الله والعلم الحديث».

(6) «في ظلال القرآن» (6/ 3848-3850).

اقرأ أيضا

التفكر في آيات الله في الأنفس

التفكر في آيات الله المشهودة في الآفاق

التفكر في بعض آيات الله الخارقة

 

التعليقات غير متاحة