إشارات عابرة إلى بعض ما تميزت به الشريعة الربانية

يقولون: لابد أن يشرع البشر لأنفسهم ، لأن الشريعة الثابتة لا يمكن أن تتلاءم مع مستجدات الحياة ، وقد وصل الإنسان إلى القمر ، وفجر الذرة وصنع الأعاجيب!

كل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية

(أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ؟ ) [المائدة:50].

إن حكم الجاهلية هو حكم البشر بعضهم لبعض .. فإن الآية الكريمة تبين أن هناك نوعين اثنين من الحكم لا ثالث لهما . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . ومن ثم فكل حكم بغير ما أنزل الله هو حكم جاهلية أيا كان مصدره وأيا كانت صورته ومحتوياته .

وحين لا يلتزم الناس بشرع الله ، فالبشر هم الذين يشرعون ، سواء كان المشرع فردا ، أو جماعة من الناس ، أو مجموع الناس كلهم .. فكلهم بشر ، وحكمهم كله حكم جاهلية ما دام لا يلتزم بما أنزل الله.

من مميزات الشريعة الإسلامية

الشمول والإحاطة

وأول ما يلحظ الإنسان فى الشريعة الربانية هو الشمول والإحاطة .

فحين اكتمل الدين ، وقال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة:3] كانت الشريعة الربانية قد أحاطت بكل جوانب الحياة البشرية ، وشملت كل متطلبات الإنسان في حياته على الأرض .

وهنا ترد قضية الثابت والمتغير في حياة الإنسان، ويرد السؤال: كيف تمتد صلاحية الشريعة خلال القرون المتعاقبة والحياة دائمة التغير لا تثبت على صورة واحدة ؟

وهنا تبرز الجاهلية تقول: لابد أن يشرع البشر لأنفسهم ، لأن الشريعة الثابتة لا يمكن أن تتلاءم مع مستجدات الحياة ، وقد وصل الإنسان إلى القمر ، وفجر الذرة وصنع الأعاجيب!

والذين يقولون مثل هذا من ( المسلمين ! ) لا يعرفون شيئًا عن شريعتهم الربانية ، ولا يقرءون تاريخ أمتهم ، ولا يراجعون تراثهم ؛ لأنهم أداروا ظهرهم لهذا كله منذ دخلوا في عبودية الانبهار بما عند الغرب ، وانسحقوا تحت الغزو الفكري ، وضغط ( الأمر الواقع ) الذي أحدثه الغزو الصليبي في ديار المسلمين : (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا : لولا فصلت آياته ؟! أأعجمي وعربي ؟! قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى . أولئك ينادون من مكان بعيد ! ) [فصلت:44].

إن في حياة الإنسان – كما في بنية الكون كله ثوابت ومتغيرات…

وفي السنوات الأخيرة من تقدم العلم تبين الناس هذه الحقيقة بالنسبة للكون المادي .

تبينوا أن هناك تغيرا دائما ، أو – كما يحلو لهم أن يسموه – تطوراً دائماً في شكل الكون : تموت نجوم وتولد نجوم .. يتجمع سديم وتتناثر كواكب .. تتحول معادن مشعة إلى أخرى غير مشعة ويتغير وزنها الذري .. ولكن هذا كله يتم في إطار محور ثابت قوامه تركيب الذرة الذي لا يتغير مهما تغير الشكل الخارجي للكون .

أما في حياة البشر فقد أدرك المسلمون حقيقة الثبات والتغير منذ التزموا بهذا الدين . منذ أخلصوا قلوبهم للا إله إلا الله ، فاستنارت بصيرتهم بنور الله ..

أدركوا أن في حياة الناس أمورا ثابتة لا يجوز أن تتغير ، لأنها إن تغيرت تفسد الحياة ؛ وأمورا دائمة التغير في شكلها ، ولكنها محكومة في تغيرها بقواعد ثابتة لا تتغير ، وإلا تحول التغير إلى فوضى لا يحكمها ضابط .

وأدركوا أن الشريعة الربانية تلتقي التقاء كاملاً مع هذه الحقيقة الكائنة في حياة البشر .

الاجتهاد هو أداة التوفيق بين الثابت والمتغير في حياة المسلمين

ففيها ثوابت لا تتغير ، تحدد الأمور الثابتة في حياة البشر. وفيها قواعد ثابتة تحكم ما هو عرضة للمتغير الدائم بحكم انتقال حياة الناس من طور إلى طور .. وأن الله أنزل تفصيلات في الأمور الثابتة ، سواء في كتابه المنزل، أو في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، بينما أنزل حكما مجملاً في المتغيرات ، ثم أباح للعقل المؤمن ، الملتزم بمقتضيات لا إله إلا الله أن “يجتهد” في إنزال المستجدات على الأحكام الثابتة ، فكان ( الفقه ) الذي بدأ مباشرة بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانقطاع الوحي .. أي منذ قام المسلمون بالتطبيق العملي لهذا الدين ، مستمدين من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، ومستندين إليهما في كل الأمور .

والاجتهاد هو الأداة الدائمة للتوفيق الدائم بين الثابت والمتغير في حياة المسلمين. والأداة التي حفظت حياة المسلمين في إطار الشريعة الربانية عدة قرون.

شبهات العلمانيين حول الشريعة: تفنيد لدعاوى الباطل

وهنا يتحفز “العلمانيون” بدعاوى ، يحسبون أنهم يبطلون بها شريعة الله !

(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) [الصف:8-9].

ثبات الشريعة وحكمتها: ردّ على شبهة الجمود الإسلامي

منهم من يقول: إن الحياة الإسلامية جمدت في القرون الثلاثة الأخيرة بسبب ثبات أحكام الشريعة ، وعدم وفائها بالمستجدات الهائلة التي جدّت في حياة البشر .

وهؤلاء لا يدركون أنهم بهذه القولة يخرجون من دين الله أصلاً ، بل يخرجون من الباب الأكبر الذي يدخل منه المسلمون في دين الله ، وهو باب العقيدة . لأنهم – وإن لم يعوا ذلك ـ ينفون عن الله جل وعلا صفة العلم وصفة الحكمة ، كأنهم يتصورون – في جهالتهم- أن الله لم يكن يعلم – وهو يفرض هذه الشريعة – أن أحوال الناس ستتغير في القرون التالية، وأن الشريعة التي فرضها لن تصبح إذن وافية بما جد في حياة الناس ! كما أن فرض شريعة غير صالحة للتطبيق في الظروف المتجددة أمر لا حكمة فيه ، بل هو مجاف للحكمة تمام المجافاة !

نفي حقيقة الشريعة

ومنهم من يقول: إن الاجتهاد عملية بشرية .. وإن الذي يطبق ليس هو شرع الله ، إنما هو فهم البشر لشرع الله ! وإن شرع الله – على هذا المعنى – شيء لا وجود له في الحقيقة ! إنما الموجود هو التصور البشري لشرع الله ، وهذا قابل للتغير، كما أن الاختلاف حاصل فيه بالفعل بين فقيه وفقيه .. فلماذا نطالب بتطبيق شيء لا وجود له في الحقيقة ، أو ليست له صورة محددة يمكن أن يقال : إنها هي – وليس غيرها – شرع الله !!

تفكيك مغالطة “الشريعة مجرد آراء بشرية”

ويزيد على ذلك قوم آخرون فيقولون: مادامت هي عملية بشرية ، فلماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا ، ونكون في الوقت ذاته من الشجاعة بحيث نتخذ قرارا حاسما : أن نلغي من حسابنا تماما شيئًا اسمه الشريعة . ونأخذ القانون الوضعي بلا تحرج ، لأنه قانون “جاهز” و “متطور” ومساير لما حدث في حياة الناس من مستجدات ! فوق أنه قانون لا قداسة له ، لأنه من صنع البشر فنستطيع أن نلغيه متى نشاء ، أو نعدله متى نشاء !!

وهؤلاء وهؤلاء – وإن كانوا “قانونيين” – يغالطون أنفسهم ، أو يغالطون الناس مغالطة قبيحة مكشوفة..

فالاختلاف في تفسير النص وارد ، والاختلاف في الاستمداد من القواعد الثابتة من أجل استنباط أحكام لما يجد من المصالح المرسلة وارد .. وهو أمر قديم عرفه الفقهاء منذ كان هناك فقهاء ، وأقر بعضهم بعضا على مبدأ الخلاف ، ولم يروا فيه ثلما للشريعة ولا إلغاء لها ، ولا تحويلاً لها إلى شيء صوري لا وجود له في الحقيقة .

والمغالطة القبيحة المكشوفة هي إغفال الحدود التي يجتهد فيها المجتهدون ، وتصوير عملية الاجتهاد كأنها تجري بلا ضابط ! إن الاجتهاد حدوده ألا يحل حراما ، أو يحرم حلالاً ، وألا يخالف مقاصد الشريعة ..

بين الاجتهاد المُنضبط والهوى البشري

وفرق ضخم في عالم الواقع بين اجتهاد يلتزم بهذه الحدود – مهما اختلف المجتهدون فيما بينهم – واجتهاد لا ضابط له إلا النظر البشري ، أو قل : الهوى البشري والقصور البشري ! والمسألة أوضح من أن تحتمل المحال والمماحكة..

هل يستوي المجتمع الذي يجتهد الفقهاء فيه ، ولكنهم يلتزمون – مهما اجتهدوا – بتحريم الفاحشة ، والمجتمع الذي يؤدي فيه الاجتهاد إلى إباحة الفاحشة سوية وشاذة ؟!

هل يستوي المجتمع الذي يجتهد الفقهاء فيه ، ويلتزمون – مهما اجتهدوا – بتحريم الربا، والمجتمع الذي يؤدي الاجتهاد فيه إلى إباحة الربا وجعله هو أداة النشاط الاقتصادي .. المدمر ! هل يستوي المجتمع الذي يجتهد الفقهاء فيه ، ويلتزمون ـ مهما اجتهدوا ـ بتطبيق الحدود ، والمجتمع الذي يؤدي الاجتهاد فيه إلى التخفيف المستمر في العقوبة ، الذي أدى إلى التزايد المستمر في الجريمة .. ؟!

أما إذا التزمنا في الاجتهاد بمقاصد الشريعة ، فماذا يبقى للعلمانيين ؟!

التشريع واحدا من الأدوات التي يصان بها المجتمع من الفساد

يلفت نظرنا كذلك في هذا الدين كون التشريع واحدا من الأدوات التي يصان بها المجتمع من الفساد، ولكن الشريعة لا تعمل وحدها، ومن ثم فليس الأمر فيها أنها “قانون” ، يمكن أن يستبدل به قانون آخر ! إنما هو كتاب أحكمت آياته وفصلت من لدن عليم حكيم . إنه منهج متكامل في معالجة الأمور .. لا يأخذ الأمور فرادى ، ولا يضع العلاج لها فرادى .

ولنأخذ نموذجا من تطبيق الحدود .

إذا كان ذلك كله فلماذا يسرق السارق ؟!

حد السرقة قطع اليد..

وحين تعرض المسألة من خلال هذه الجزئية وحدها تتحفز بعض الألسنة للاستنكار باسم “إنسانية” التعامل حتى مع المجرم .. وتتململ بعض الأفكار في بعض الرءوس : أو لم يكن الأنسب أن تكون العقوبة أقل قسوة : السجن مثلاً مدة من الزمن .. ؟!

وينطلق هؤلاء وهؤلاء من جهل مطبق بالإسلام، وانبهار بالغرب يستعبد الأرواح .

إن الإسلام لا يأخذ الأمر من جانب العقوبة وحدها ، ولا يبدأ العلاج بتطبيق العقوبة .. إنما العقوبة آخر شيء يلجأ إليه الإسلام ..

إنما المنهج الرباني يهدف إلى منع أسباب الجريمة أولاً ، لكي لا تحدث ابتداء.

يبدأ بترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر ، وإيجاد الصلة الحية بين العبد وربه .. الصلة التي تولّد في القلب الحياء من الله ، والحب الذي يؤدي إلى الطاعة ، والخوف الذي يؤدي إلى الامتناع عما يغضب الله :

(ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) [الإسراء :57].

ثم يقوي أواصر التواد والتراحم في المجتمع ، وترسيخ “الأخوة” بين المؤمنين : (إنما المؤمنون إخوة ) [الحجرات:10] .

ثم يشد رباط الأسرة ، وهي المحضن الذي يتربى فيه الطفل صغيرا ، لينشأ على أخلاقيات الإسلام .

وبالإضافة إلى هذه “المعنويات” كلها – وإن كانت كلها معنويات ذات واقع حسي – يجعل في أموال الأغنياء فريضة يجمعها ولي الأمر – ويقاتل من يمتنع عن أدائها – وينفقها على المحتاجين إليها .

ويجعل بيت المال في النهاية مسئولاً عن كل من قعدت به ظروفه عن العمل ، أو جعلته دون المستوى اللائق بالنسبة لحال الأمة كلها من الغنى أو الفقر.

فإذا كان ذلك كله فلماذا يسرق السارق ؟!

إنه – إن فكر في السرقة – فهو غير معذور !

وعندئذ تكون قسوة العقوبة التي تنتظره وسيلة لصده عن التفكير في ارتكاب الجريمة ..

ومع ذلك كله فإنه إن سرق بالفعل فلا يطبق عليه الحد حتى يتأكد الحاكم أنه غير معذور!

سرق غلمان لحاطب بن بلتعة ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم إلى عمر – رضي الله عنه – فأقروا فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم ، فلما ولى رده وقال لحاطب : والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له .. لقطعت أيديهم. فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك . ثم التفت إلى المزنى فقال: بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة . فقال لحاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة !

أى روعة فى العدل الرباني، المتمثل في شريعة الله ..!

أين يذهب العلمانيون من وجه الله وهم يرفضون هذا الهدي الرباني الرائع ويبحثون عن قوانين ظهر فسادها في بلادها ، وضجرت منها مجتمعاتها ؟!

(أفحكم الجاهلية يبغون ؟! ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟!) [المائدة:50] .

المصدر

كتاب: “لاإله لإلا الله عقيدة وشريعة ومنهج حياة” ص70-77.

اقرأ أيضا

من خصائص الحضارة الإسلامية: ربانية التشريع

يؤمنون بالشريعة .. إلا قليلاً !

حضارة العدل المطلق

شؤون الدنيا للحكام، وشؤون الآخرة للعلماء! (3-3)..الاحتجاج بحديث «أنتمْ أعلم بأمر دنياكمْ»

التعليقات غير متاحة