الانتساب للإسلام والتوحيد شرف مروم، وهوية وجنسية، وقطب اجتماع وولاء، وسبب براء ومفارقة. وعلى أساسها كان الأنبياء يوالون ويعادون.
رُكن العقيدة
لا عقيدة ولا توحيد لله عز وجل بدون ولاء وبراء. بل إن كلمة التوحيد التي لا يدخل أحد إلى الإسلام إلا بها هي ولاء وبراء؛ فنصفها ولاء والنصف الآخر براء: فـ (لا إله) براءة من كل شيء يعبد من دون الله عز وجل و(إلا الله) ولاء وعبودية لله وحده؛ يكون معناهما جميعا: “لا معبود بحق إلا الله تعالی“.
وإن المتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى التوحيد لَلَمَس هذه الحقيقة واضحة جلية في دعوتهم وقلوبهم وواقعهم ومواقفهم؛ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء يقول الله عز وجل عنه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 – 28]. وقد وصانا الله عز وجل بالاقتداء بإمام الحنفاء في ولائه وبرائه هذا فقال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
الولاء والبراء مع الأنبياء
الولاء والبراء مع نوح عليه السلام
قال الله عز وجل لنبيه نوح عليه الصلاة والسلام عندما دعا ربه لابنه الهالك: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: 46].
وهذا من نوح عليه السلام ليس تجاهلا منه لعقيدة الولاء والبراء، فحاشاه ولكنها عاطفة الأب مع ابنه في أن لا يكون من المعذبين. ولكن الله عز وجل عاتبه على ذلك وعزاه في ذلك بأن لا يحزن عليه فليس بينه وبين ابنه وشيجة ولا صلة ما دام أن وشيجة العقيدة قد انبتت وانقطعت بينهما.
يعلق “سید قطب” رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول:
“إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب؛ وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة.. إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح عليه السلام وهو يقول: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِ﴾.. ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ ثم بيّن له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله.. ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح؛ ﴿فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك..!
وهذا هو المَعْلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة.. إن الجاهليات تجعل الرابطة آناً هي الدم والنسب؛ وآناً هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة..! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك، أو المصير المشترك.. وكلها تصورات جاهلية ـ على تفرقها وتجمعها ـ تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي..!
والمنهج الرباني القويم ـ ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه ـ قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير والمَعْلم الواضح البارز في مفرق الطريق ..
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ضَرَب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ليقرر مِن وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها..”. (1في ظلال القرآن ( 4/ 1886))
الولاء والبراء مع هود عليه السلام
وهذا هود عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: ﴿..قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ﴾ [هود: 54، 55]، وقال تعالى عن نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام مع زوجيهما: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ [التحريم: 10].
والآيات في ذكر مواقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وبراءتهم منهم ومن شركهم كثيرة جدا كما أن الآيات التي نهى الله عز وجل فيها المؤمنين عن موالاة الكفار كثيرة أيضا. وليس المقصود هنا استقصاء جميع الأدلة والشواهد على عظم هذا الركن العظيم من أركان التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن المقصود هنا الإشارة إلى أن هذا المَعْلم المهم من معالم العقيدة قد كان من صميم دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا أساس تميزهم والمؤمنين معهم تجاه أقوامهم ومفاصلتهم لهم.
لوازم الولاء والبراء وتبعاته
إن الولاء والبراء في هذه العقيدة ليس كلمة تقال باللسان؛ ولكنها حقيقة عظيمة يلزم عليها لوازم كثيرة، ويترتب عليها تبعات وتضحيات باهظة.
- فهي التي من أجلها أوذي الأنبياء وأتباعهم تارة بالسجن وتارة بالطرد وتارة بالقتل.
- وهي التي من أجلها هَجر الأنبياء أوطانهم وأهليهم فرارا بدينهم وبغضا وعداوة للكفر وأهله، قال تعالى عن إبرهيم عليه الصلاة والسلام بعد إنجائه من النار: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]، وقال تعالى عنه أيضا: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].
- وهي التي من أجلها حوصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في شعب أبي طالب حتى بلغ منهم الجهد مبلغه.
- وهي التي من أجلها هاجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه إلى المدينة؛ وتركوا أموالهم وأوطانهم التي أحبوها ونشأوا فيها.
- وهي التي من أجلها قام سوق الجهاد مع أعداء الله تعالی.
- وهي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله». (2مسلم في الإيمان (23))
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
“وهذا من أعظم ما يبين معني (لا إله إلا الله)؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كَوْنه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع”. (3فتح المجيد ص 87)
صلب العقيدة وحاجز منيع
إن على الدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان أن لا يغفلوا في دعوتهم عن هذا الجانب العظيم من العقيدة، وأن يولوه الاهتمام الشديد في أنفسهم، وبرامجهم ومناهجهم وتربيتهم؛ فهو الجدار الصلب والسور المنيع الذي يحمي الله به المجتمعات المسلمة من الذوبان في ثقافات الكفار وأفكارهم ونظمهم وعاداتهم.
ولقد فطن الأعداء إلى خطر عقيدة الولاء والبراء عليهم؛ فما فتئوا منذ زمن طويل يسلطون معاولهم لتكسيرها؛ ذلك ليقينهم بعدم جدوى خططهم ومكرهم ما دام هذا الحاجز المنيع من الشعور ببغض الكافر وعداوته موجودة عند المسلمين..
ولقد نجحوا إلى حد بعيد في إضعاف هذه العقيدة، والتهوين من شأنها؛ وصرنا نرى صورا من تقليد الكافر في مظهره وأفكاره وعاداته وأعياده، وأصبحنا نسمع أصواتا كفحيح الأفعى تنادي تارة بالتسامح الديني، وتارة بزمالة الأديان، وتارة بالتعايش السلمي واحترام حقوق الإنسان. ومن آخر تقليعاتهم ما يسمى بـ “النظام العالمي الجديد” حيث زعموا أن العالم سيسوده السلام في ظل هذا النظام الطاغوتي الكافر وفي ظل ما يسمونه بـ “الشرعية الدولية”.
إنه والله حكم الطاغوت الدولي الأكبر الذي يجب على كل مسلم ـ بما تفرضه عليه عقيدته ـ أن يكفر به ويقول ما قاله إبراهيم عليه الصلاة السلام لقومه: ﴿..كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ…﴾”. [الممتحنة: 4].
وجوب تعليم الولاء والبراء
إن على الدعاة إلى الله عز وجل أن يترسَّموا هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا المعلم العظيم من معالم التوحيد؛ بدايةً في أنفسهم وأولادهم، ثم في دعوة الناس وتربية النشء عليه، ومقاومة وفضح ما ينقضه في مجتمعات المسلمين اليوم. وما أحسن ما أوصى به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أبناء عصره ـ ونحن في عصرنا إلى هذه الوصية أحوج ـ قال رحمه الله تعالى:
“إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه، مثل تعليم الوضوء والصلاة ؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة الصلاة، ولا صحة لإسلامه أيضا إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله”. (4الرسائل الشخصية ص 323)
………………………..
الهوامش:
- في ظلال القرآن ( 4 / 1886).
- مسلم في الإيمان (23).
- فتح المجيد ص 87.
- الرسائل الشخصية ص 323.