بين العقيدة المستقيمة واستقامة الخُلق رباط أصيل، أوضحه الأنبياء بأقوالهم ومواقفهم وأفعالهم. النصحُ والشفقة أبرزها، والأهل والرحم أولى بها ومقدَمون فيها.
الارتباط بين العقيدة والأخلاق
لقد خص الله عز وجل أنبياءه عليهم الصلاة والسلام بالكمال البشري في الأخلاق والسلوك فجاءوا قدوات لمن بعدهم يُهتدَى بأخلاقهم ويُقتدَى بسلوكهم كما كان الشأن في توحيدهم وإيمانهم ومعرفتهم بربهم سبحانه. ولا غرابة فيما وصلوا إليه من أخلاق عالية وصفات نبيلة؛ فإن هي إلا من آثار التصور الصحيح والإيمان العظيم، فالارتباط بين المعتقد والسلوك ارتباط قوي وبينهما تناسب طردي تشهد له الأدلة والتجارب، فكلما صح الاعتقاد وكان سليما فإن الأخلاق تعلو وتنبُل وتشرف، والعكس بالعکس.
وإن الفكر ليكَلّ والقلم يعجز عن الإحاطة بأخلاق وسلوكيات هؤلاء الصفوة من عباد الله عز وجل، سواء من جهة الكم أو الكيف؛ ولكن حسبنا أن نستعرض بعض هذه الأخلاق السامقة لتدلنا على بقيتها؛ لعل القلوب ترق والعزائم تستيقظ لتلحق بهذه الصفوة المباركة فتهتدي بأخلاقهم وتترسم سلوكهم، وخاصة في مثل زماننا المعاصر والذي يشهد أزمة أخلاق وسوء ممارسات وتعامل بين الناس، خاصة بين بعض أهل الخير منهم. فإن كنا محبين للأنبیاء حقيقة فهذه أخلاقهم عليهم الصلاة والسلام، وقد أمرنا الله عز وجل بالاقتداء بهم فيها وفي غيرها ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾.
من أخلاق الأنبياء الكرام
خلق النصح والرحمة بالناس والشفقة عليهم من عذاب الله
لقد قص الله عز وجل علينا في كتابه الكريم من أخبار أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام ما يدل دلالة واضحة على شدة نصحهم للناس ورحمتهم بهم وشفقتهم عليهم. وبذلوا في ذلك جميع الأسباب الممكنة لهدايتهم وإنقاذهم من عذاب الله سبحانه. والأدلة على ذلك كثيرة منها:
– قوله تعالى عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:61-62].
– وقوله تعالى عن دعوة نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: 59].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالی عند هذه الآية:
“ثم خوفهم ـ إن لم يطيعوه ـ عذاب الله فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام، وشفقته عليهم حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم”. (1تفسير السعدي (2/ 122))
وهذا التخوف على الناس من عذاب الله عز وجل كان عند جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ومن ذلك قول الله عز وجل عن شعیب عليه الصلاة والسلام يحذر قومه: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ [هود: 89].
– وقد وصف الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. [التوبة: 128]. ولقد بلغ النصح والشفقة على الناس من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى كاد هذا الأمر أن يهلکه؛ فخاطبه الله عز وجل قائلا: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء : 3]، فكان صلى الله عليه وسلم يحزن حزنا شديدا على عدم إيمانهم؛ نصحا لهم وشفقة عليهم.
مقارنة تكشف عن خلل
الله أكبر، ما أعظم هذه الأخلاق، وما أزكی هذه القلوب المخلصة لربها المتجردة من الأهواء والشحناء وإرادة الدنيا. ما أحوجنا إلى هذه الأخلاق العظيمة والقلوب النقية. خاصة في زماننا اليوم الذي قل فيه الناصحون المشفقون على عباد الله سبحانه، حيث تحولت الدعوة عند كثير منا ـ إلا من رحم الله تعالى ـ إلى خصومات وتصيّد للأخطاء وفرح بها. وما ذاك إلا من خلل في الإخلاص، ودخول الأهواء إلى القلوب.
فإذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم الكفار، هو الرحمة بهم والنصح لهم والشفقة عليهم، فلأن يكون هذا الشعور مع من أخطأ من المسلمين أو انحرف منهم أقوى وأقوى، ولو أنا انطلقنا في دعوتنا مقتدين بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ انطلاق الناصح الرحيم المشفق بإخوانه المسلمين من دعاة وغيرهم لكان الأمر على غير ما نراه اليوم من الشحناء والأحقاد والخصومات والأهواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
مكارم تستلزم أخرى
وإن هذه الأخلاق النبيلة لتنبع من الإخلاص وسلامة القلوب. كما أنها في نفس الوقت تقتضي وتثمر أخلاقا أخرى لازمة لها؛ فالناصح لعباد الله عز وجل لا تراه إلا صابرا حليما رفيقا يحب الرفق والأناة في الأمور كلها، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وهذه الأخلاق جميعها واضحة في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأدلتها كثيرة في القرآن الكريم، ولكن المقام لا يتسع لذكرها.
النصح والشفقة للأقارب والرحم
ويبقى أمر مهم في الحديث عن خلق النصح والرحمة عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ألا وهو نصحهم ورحمتهم وشفقتهم بأقاربهم وتوجيه النصح والدعوة بادئ ذي بدء إليهم، والشواهد على ذلك كثيرة.
– دعوة نوح عليه الصلاة والسلام ابنَه إلى الإيمان والركوب معه في السفينة التي نجى الله فيها المؤمنين من الغرق.
– ومن هذا الباب أيضا تلك الدعوة التي وجهها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه والتي كلها نصح وشفقة ورحمة مع أدب جم وحلم وتلطف من الابن النبي إلى أبيه الكافر.
ومع أن الأب الشقيّ رد نصيحة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهدده وتوعده بالرجم وطالبه بالهجر والمقاطعة إلا أن الابن البار الخائف على أبيه من عذاب يمسه من الرحمن قال: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾. فلما أيس من إيمانه تبرأ منه واعتزله وترك الاستغفار له. ومع ذلك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يحاول الشفاعة فيه يوم القيامة ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.
– ومن ذلك أمر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة قرابته في قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..﴾ [طه: 132]
قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى:
“أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا..﴾ [التحريم: 6]”. (2تفسير ابن كثير عند الآية (132) من سورة طه)
– ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء : 214]. وقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر فنادى قرابته الأبعد ثم الأقرب فأنذرهم عذاب الله عز وجل وحذرهم من عقوبة ما هم عليه من الشرك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله له حين أنزل الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ فقال: «يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، یا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، یا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شیئا». (3البخاري في الوصايا (2753)، ومسلم في الإيمان (206))
وبعد هذه الشواهد الدالة على شدة عناية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأقاربهم وخوفهم عليهم من عذاب الله عز وجل؛ هل بقي بعد هذا عذر لنا في إهمال أولادنا وأهلينا وأقاربنا وترك النصح والتوجيه لهم..؟
الاهتمام بنجاة الأهل
نعم إن كثيرا منا اليوم قد نراه نشيطا في دعوة الناس وإسداء النصح والخير لهم، وهذا شيء طيب ومطلوب، ولكن أين نصيب الأهل والأقارب من هذه الدعوة..؟
إن الواقع خلاف ذلك إلا من وفق اللهُ عز وجل. ولذلك؛ وفي مثل زماننا اليوم الذي أقبلت الفتن فيه كقطع الليل المظلم وكاد طوفان الفساد أن يعم الصالح والفاسد، أتوجه باللوم الشديد لنفسي ومن يشاركني هذا الإهمال، وأدعو نفسي وإخواني الدعاة أن نبدأ بداية جادة في صفوف أهلينا وأقاربنا، نعلّمهم الخير ونحذرهم الشر، والناس والحمد لله لا زال في قلوبهم الخير، ولكن يريدون من ينفّض الغبار عن هذه القلوب ويجمعهم على الخير، وينبغي الحذر ممن يثبّطنا عن هذا العمل بحجة تضييع الجهد أو صعوبة البداية أو غير ذلك، فهذا كله من وساوس الشيطان وصده عن سبيل الله، والأمر يسير والحمد لله ولا يحتاج إلا إلى الإخلاص والصدق؛ ثم يأتي تيسير الله عز وجل وتسخير النفوس لقبول مثل هذا المشروع الذي يحقق للداعية ثمرتين عظيمتين لا تقل إحداهما عن الأخرى؛ فإما أن تثمر الدعوة في وسط الأقارب خيرا فيحصل القبول والاتعاظ وتتطهر النفوس والبيوت من الفساد والمنكرات، وفي هذا أجر عظيم. وإما أن يحصل للداعية الإعذار وإبراء الذمة.
………………………
الهوامش:
- تفسير السعدي (2/ 122).
- تفسير ابن كثير عند الآية (132) من سورة طه.
- البخاري في الوصايا (2753)، ومسلم في الإيمان (206).
المصدر:
- فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجُليّل، وقفات تربوية، المجلد الرابع “فبهداهم اقتده”، ص97-106.