خصومة الإيمان مع الكفر خصومة مكررة وأصيلة في رحلة الإيمان ومواجهات أهله، نطق به الأنبياء، والمؤمنون، بل ونطق به العدو قديما وحديثا؛ فمن يفقه..؟

حقيقة “التعايش” الغربي

في (المقال الأول) أوضحنا سنة المدافعة، وطبيعة اختلاف العقائد، وحقيقة السلم والمحبة التي يريدها الغرب الصليبي المعتدي على الأمة في شتى البقاع، وتصوره لـ “التعايش السلمي” وأن المحبة التي يتصورها و”السلام” الذي ينشُده هو الذوبان والاستسلام وإذعان المهزوم أمامهم وعدم الرفض والمقاومة.

وهنا نوضح أن ما نحاول إيصاله اليوم من حقائق للمسلمين هي حقائق أصيلة أدركها المؤمنون على مدار التاريخ الإنساني من نوح وقومه الى صالح وقومه، الى فتية الكهف ـ رحمهم الله ـ الى يومنا هذا؛ ينطق به العدو ويُعلنه؛ ولكن المغيّبين لا يفقهون..!

الخصومة موروثة ومكررة

قال الله عز وجل عن دعوة نبيه صالح صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ (النمل:45).

يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان عند قوله تعالى ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾:

“ولم يبين هنا خصومة الفريقين ولكنه بين ذلك في سورة الأعراف في قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾ (الأعراف: 75-76)، فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة هي الخصومة في الكفر والإيمان”.

ويقول الشعراوي عند هذه الآية:

(وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ (النمل: 45) لا بد أنه أُرسل بشيء؛ ما هو؟ ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ لذلك سُميت (أَنِ) التفسيرية، كما في قول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ (القصص: 7) ماذا؟ ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾.

فماذا كانت النتيجة؟

﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ ، والاختصام أن يقف فريق منهم ضد الآخر، والمراد أن فريقًا منهم عبدوا الله وأطاعوه، والفريق الآخر عارض وكفر بالله.

﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ﴾ أي: مؤمنون وكافرون ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ لأن كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الأخرى. وفي موضع آخر، شرح لنا الحق تبارك وتعالى هذه المسألة، فقال سبحانه: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ (الحج:19- 21).

أما الفريق الآخر: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ (الحج:23-24).

فبيّن لنا الحق سبحانه كل فريق منهما، وبيّن مصيره وجزاءه.

ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا الأمر بالطاعة والتسليم، ولا يختلفوا فيه هذا الاختلاف: فريق في الجنة وفريق في السعير ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ (الانفطار: 13-14).

وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الإيمان. والكافرين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الكفر. لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر، بل وعند لقاء الله تعالى في الجنة؛ لأنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الآخرة في غاية الجزاء، كما يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف:67)، أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرَّأ بعضهم من بعض.

إذن؛ فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر، أما في الآخرة فبين الكافرين بعضهم البعض، بين الذين أَضَلُّوا والذي أُضِلُّوا، بين الذين اتَّبعُوا، والذي اتُّبِعوا”. ا.هـ (1تفسير الشعراوي 6752-6754)

وعْي فتية الكهف بحقيقة أصيلة يجهلها اليوم الكثير..!

وها هم الفتية الذين آمنوا بربهم “أصحاب الكهف” الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ يدركون هذه الحقيقة والسُنة الربانية ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ وذلك بأنه لا بد من الصِدام مع الكفار وأن الخصومة والمفاصلة معهم حتمية وأن الكفار لا يرضون ولا يقبلون من المؤمن إلا العودة في ملتهم الكافرة أو قتلهم؛ قال الله عز وجل عن هؤلاء الفتية بعد أن بعثهم من نومهم الطويل قولهم: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ (الكهف:19-20).

يعلق الشيخ “سلمان العودة” ـ حفظه الله تعالى ـ على علم هؤلاء الفتية بهذه السنة وتلكم الحقيقة فيقول:

“إنني لأعجب أشد العجب من أصحاب الكهف على رغم صغر سنهم، وحداثتهم، وقِلة عددهم، وقرب عهدهم بالهداية ـ كما ذكر الله تعالى في كتابه ـ إلا أنهم كانوا بصحّة يقينهم، وصدقهم، وإخلاصهم كانوا أذكى وأبرع، وأعرف من كثير من الناس الذين درسوا، ودرّسوا، وقرأوا، وكتبوا وخطبوا وتكلموا، ولكن شتان بينهما كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

وقال بعض السلف: «مَن عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لا يعلم»، فهؤلاء القوم أخلصوا لله، وأقبلوا على الله، وصدقوا مع الله؛ فجعل الله الحقائق الإيمانية في قلوبهم واضحة، لا تحتاج إلى دروس كثيرة، ولا إلى محاضرات، ولا إلى شيء. فِتْيَةٌ خرجوا من قومهم، وأوَوا إلى الكهف!

ما ذُكِرَ لنا أنهم تلقّوا علوماً كثيرة، ولا أنهم جلسوا زماناً طويلاً، وإنما ظاهر حالهم أنهم كانوا حديثي عهدٍ بالهداية، وقريبي عهد بالإيمان، فخرجوا من بيئات، بعضها بيئات الملوك وأبناء الملوك، ومع ذلك انظر ماذا كان تفكيرهم؟ وماذا كان حديثهم؟ وما هي نظرتهم؟

يقول الله تعالى على لسانهم: ﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ أي: يغلبوكم، وينتصروا عليكم، فليس أمامهم إلا أحد حلَّين:

الحل الأول: ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ وهذا تعبير عن القتل، سواء كان القتل بالرجم أم بالسيف أم بالبندقية أم بالرصاصة أم بغيره.

الحل الثاني: ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ وإذا أنتم عدتم إلى ملتهم خسرتم خسراناً مبيناً.

إن هذه هي الحقيقة الناصعة الظاهرة، التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم.

والله لقد اندهشتُ وأنا أقرأ هذه الآية، وكأنني أقرؤها لأول مرة، وبين يدي تصريح لـ “ريتشارد نيكسون” ـ الرئيس الأمريكي الأسبق ـ يقول فيه:

“ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا أحد حلين:

الأول: هو تقتيل المسلمين.

والثاني: هو التذويب”.

وبغضّ النظر عن كونه اختار الحل الثاني، ورجّحه، إلا أنهما على كُلِّ حالٍ أمران، أحلاهُما مُرٌّ؛ فأي قيمة لمسلم قد ذُوِّبَ في المجتمعات الكافرة، وفقد معنى دينه وإيمانه..؟

إن بقاء المسلم على دينه، هو الصبر وهو النصر، حتى لو أوذِيَ، ولو سُجِنَ، ولو حُورب، ولو عُذّب، ولو استُضعِف، ولو صودر ماله، ولو صُودرت كلمتُه، ولو فُعل به ما فُعل.

وإنَّ الهزيمة الحقيقية ليست أن يقتل المؤمن صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، بل الهزيمة الحقيقية هي أن يتراجع المسلم عن دينه، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (البقرة:217).

إنَّ الثقة بالكفار يجب أن تنتهي، ولا يجوز أبداً أن نأخذ تصورنا عن الأمم الكافرة، من خلال مجالستنا لبعض “البسطاء من الكافرين”، أو بعض الذين ربما كان الواحد منهم لا يحمل حقداً شخصياً على المسلمين، أو من خلال سماعنا لأخبار عن بعض الجمعيات الغربية التي يقولون: إنها تتعاطف مع القضايا العربية والإسلامية.

لا، وليس التحليل الصحفي الذي يظهر أنه محايد وينشر في بعض جرائدهم، ولا المقال الجريء، ولا الجمعية الإنسانية، ليست هذه الأشياء هي التي ترسم السياسة الغربية.

إن السياسات الغربية تُرسم في دوائر الاستخبارات الغربية، وتُرسم وراء الكواليس، ويرسمها أقوام تشبعوا بالحقد على المسلمين ويرسمها أقوام يضعون لكل شيء موضعاً، ويحتاطون لكل أمر مهما قَل، ويحسبون لكل عدو أو خصم حسابه.

بل إنني أقول لكم: إن العالم اليوم يعيش تضليلاً واسع النطاق في المجال الإعلامي، وكأنه يراد للمسلمين أن يظلّوا في غيبوبة عما يجري، حتى يفاجَؤوا بعدوهم وقد أُحكم الحصار عليهم وكبّلهم بالقيود والأغلال التي لا مخلص لهم منها.

ويبدو لي والله تعالى أعلم أن الغرب اليوم يتهيأ للمواجهة مع الإسلام بأسرع مما نتصور.

أو أقول على أقل تقدير: يبدو أن الغرب يتخذ الاحتياطات الكافية لضمان محاصرة الاتجاهات الإصلاحية في أوساط المسلمين التي يسميها “الأصولية” بشكل واضح”. (2عن شريط مسجل مفرغ بعنوان: حتمية المواجهة)

خاتمة، وحقائق على ألسنتهم

إن نظرة في كتاب “صدام الحضارات” لمؤلفه الحاقد (هنتنغتون) يرينا كيف أن الغرب في سياساته ودوائره الاستخباراتية وتخطيط رموزه وباحثيه يؤمنون بحتمية المواجهة والصدام والخصومة مع الإسلام وأهله؛ لأنه الذي يقف بعقيدته الربانية في وجه العقائد والأفكار الغربية، ويستخدمون في هذا الصدام وهذه الخصومة كل ما لديهم من حروب قذرة فكريًا وأخلاقيًا واقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.

ولا يريدون “السلام” و”المعايشة” إلا في خنوع خصمهم وذلته واستسلامه لهم ولأفكارهم.

ويطبقون مبدأ الخصومة مع المخالف وحتمية مواجهته حتى يكون معهم أو يفنوه، وهذا ما تطفح به ألسنتهم وما تخفي صدورُهم أكبر؛ ومن ذلك ما قاله الطاغوت “بوش الابن” أيام حرب الخليج الثانية حين قال (من لم يكن معنا فهو ضدنا) وفلت لسانه بقوله أن “الحرب مع الإسلام وأوطانه حرب صليبية”.

ومع ذلك يأتي بعض السذج والمخدوعون أو من في قلبه مرض من المسلمين، ويصدّق أن يكون مع الكفار سلام ومعايشة وعدم كراهية، إنها والله أزْمة فَهْم ومفاهيم سببها الإعراض عن كتاب الله تعالى وما فيه من النور والهدى والشفاء لما في الصدور، ويكفي المتدبر لكتاب الله تعالى قوله سبحانه عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم:

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4).

………………………………..

الهوامش:

  1. تفسير الشعراوي 6752-6754.
  2. عن شريط مسجل مفرغ بعنوان: حتمية المواجهة.

لقراءة البحث كاملا على الرابط:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة