إن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، وأعظم رحمة أنزلها على عباده هي هذا القرآن العظيم الذي بلغه للناس أفضل رسله محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، والذي هو نور ورحمة وهدى ومیزان قسط وعدل ؛ قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشوری: 17].
الكتاب والسنة: الدليل والميزان
فهنيئا لمن جعل الكتاب والسنة دليله وميزانه ومرجعه الذي يستضيء به في طريقه، وميزانه الذي يزن به الأقوال والأعمال والأخلاق والأشياء.
وتبا وخسارة لمن أعرض عن هذين النورين والميزانين العدلين، واستبدل بهما موازين البشر الظالمة الجاهلة القاصرة.
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (ومن ها هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر؛ فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح – لا في الدنيا، ولا في الآخرة – إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم؛ فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت ، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير .
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك ، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، وما لجرح بميت إيلام)1(1) زاد المعاد 1/69 ..
اضطراب وخلل في الموازين
وحينما يفتقد الناس الميزان الحق الذي لا تتأرجح به الأهواء، ولا يغيب عنه شيء فإن الناس يتخبطون ويكونون في أمر مريج؛ لأنهم يرجعون في وزنهم للأشياء إلى أهوائهم وإلى ما كان عليه آباؤهم الظالمون الجاهلون، وحينئذ تأتي هذه الموازين الجاهلية بالعجب في: تناقضها، وظلمها، وقصورها، وجهلها، وتقلبها، واعوجاجها ؛ يقول سید قطب – رحمه الله تعالى -: (فلا بد إذن من میزان ثابت ترجع إليه بالأعمال، ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم، وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها، وإلى خضم لا معالم فيه !
فلابد ابتداء من إقامة الميزان، ولابد أن يكون هذا الميزان ثابتا لا يتأرجح مع الأهواء. هذا الميزان الثابت هو میزان الله)2(2) في ظلال القرآن 2/ 950..
ومن المتأمل اليوم في أحوال كثير من الناس والمجتمعات يجد اضطرابا شديدا ، وخللا بينا في موازينهم ومعاييرهم؛ إذ يغلب عليها موازين الجاهلية التي تصدر عن الدنيا وما يدور في فلكها من النظريات المادية التي لا تحسب للدين والدار الآخرة حسابا .
وهذا الاضطراب والخلل في الموازين من الوضوح بحيث لا يحتاج المسلم فيه إلى مزيد عناء في اكتشافه. وهذا الخلل قد يوجد على المستوى الفردي كما يوجد على المستوى الجماعي والأممي، وقد يكون عن جهل أحيانا، وأحيانا عن خبث وهوی وعلم؛ ذلك لأن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازین وقيم وتصورات لمجتمعات المسلمين غير تلك التي يريدها الله ، وتسعى هذه الجهود الخبيثة لإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله سبحانه، ولتوجيه الناس والحياة والأخلاق وجهة غير التي قررها الله ؛ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، وقال سبحانه: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138].
أهمية بيان الميزان الحق الذي تقوم عليه الحياة
ولبيان أهمية هذا الموضوع أسوق النقاط التالية التي فيها ذكر بعض الدوافع التي دفعت إلى كتابة هذا الموضوع ؛ ومنها:
الميزان المستقيم نعمة من رب العالمين
أولا: بيان نعمة الله عز وجل على عباده بهذا الدين القويم، والميزان المستقيم الذي يكفل لمن اتبعه الحياة الكريمة السعيدة المطمئنة في الدنيا والآخرة، ويجازي من أعرض عنه بالحياة النكدة الضنك المضطربة التي ما لها من قرار تستقر عليه ولا میزان عدل تتحاكم إليه ؛ قال الله عز وجل: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ [طه: 123 – 126]. وقال تبارك وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21]. ويقول سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 24 – 26].
وأداءً لشكر هذه النعمة فإنه يجب على من من الله عليه بها أن يفرح بهذه الهداية العظيمة أشد الفرح؛ فإنه لا يضره ما فاته من الدنيا ما دام يهنأ بهذه النعمة، كما يجب عليه أن يحافظ عليها، ويتجنب أسباب زوالها، ويسأل ربه سبحانه الثبات عليها . كما يجب عليه الدعوة إلى هذا المنهج الحق والميزان العدل، وإيصاله إلى من حرمه حتى ينعم به في الدنيا والآخرة.
سبيل المجرمين: الأسس والآثار والعواقب
ثانيا: بيان سبيل المجرمين القائم على الهوى والظلم، وبيان موازينه المعوجة، الجائرة المضطربة، المتهافتة المتناقضة، وبيان خطورتها على أهلها في الدنيا والآخرة، وتحذير المخدوعين بها وما تجره عليهم من الشرور والفساد والفتن.
رفع الالتباس وإسقاط اللافتات الزائفة
ثالثا: التحذير من جهود المفتونين الملبسين الذين يعرضون أفكارهم وموازينهم المضطربة الظالمة في قوالب مزخرفة ؛ ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، مما يكون سببا في خداع الناس، وقبولهم لمصطلحات هؤلاء الملبسين الذين يتلاعبون بالمصطلحات، ويقلبون على الناس الحقائق، فيظهرون الحق بمصطلحاتهم البراقة في صورة باطل، والباطل في صورة حق . فكان لزاما على أهل الميزان الحق فضح هؤلاء، وبيان تلبيسهم، وكشف زیفهم.
انفتاح الدنيا واضطراب المعايير
رابعا: انفتاح الدنيا اليوم على الناس بصورة لم يسبق لها نظير؛ حيث تنافس فيها أكثر الناس، وركنوا إليها، وأصبحت هي الشغل الشاغل والغاية المنشودة عندهم، مما كان له أكبر الأثر في اضطراب المعايير، وفساد الموازين؛ حيث أصبح میزان الدنيا والمادة هي الغالبة على كثير من المواقف والحكام، واستبعد میزان الله عز وجل والدار الآخرة. ولا تسأل بعد ذلك عن ما يترتب على ذلك من الفتن والظلم والفساد والشرور.
تأثر بعض الدعاة
خامسا: سريان الخلل في الموازين، حتى دخل على بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة – وما أبرئ نفسي – وليس ذلك من عدم العلم بالموازين الشرعية والقناعة بها، بل نحن مؤمنون بها، ولكن الخلل إنما يظهر في الواقع والتطبيق ؛ إذ تطغى بعض الموازين الأرضية في بعض المواقف ؛ إما عن غفلة ، أو عن تأويل واجتهاد خاطئ، أو عن شهوة وهوى.
الهوامش
(1) زاد المعاد 1/69 .
(2) في ظلال القرآن 2/ 950.
اقرأ أيضا
كيف أخرج رسول الله خير أمة؟ (3) دور القيم .. وأهمية التوازن
العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية
حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (3-3) الانتكاس وخطة المجرمين