صلاح السرائر بداية الإصلاح، وهو سبب للرفعة، وفي الأنبياء أسوة وخاصة الخليلين. وفي الصديقين بعدهم أسوة ونموذج للائتمام بهم.
تَبَع الظاهر للباطن
مدار الدنيا على الظواهر؛ لكن مدار الآخرة على باطن القلوب. والظاهر لا يصلح أو يفسد إلا تبعا للباطن. ولهذا فمن أراد الإصلاح بدأ بسريرته فأصلحها؛ فإذا بالظاهر يُصلحه الله له، وإذا بالعلاقة مع الخلق كذلك يصلحها الله ويكفيه شأنه. فالشأن شأن ما في القلوب. وفي هذا المقال نعرف ما هي السريرة وما صلاحها المطلوب.
تعريف السريرة
قال في لسان العرب:
“السر: من الأسرار التي تكتم. والسر: ما أخفيْت، والجمع أسرار، والسريرة كالسر. والجمع السرائر، والسر ما أسررت به. والسريرة: عمل السر من خير و شر.
وأسر الشيء: كتمه وأظهره، وهو الأضداد. سررته: كتمته. وسررته: أعلنته، والوجهان جميعا یفسران في قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ [سبأ: 33]. (1لسان العرب: (3/ 1989))
ومن خلال هذا التعريف نستطيع القول أن السريرة: هو ما يكتمه المرء ويخفيه في نفسه من خير أو شر.
السريرة الصالحة
ورَد ذكر السريرة الصالحة في كتاب الله عز وجل باسم “القلب السليم”، تعبيرا بالمحل عن الحال.. قال الله عز وجل في معرض ذكره لدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87-89]. ومدَح الله خليله بقوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84].
ولا يكون القلب سليما والسريرة صالحة حتى يتحلى بصفات ويتخلى عن صفات؛ يتحلى بالأعمال والاعتقادات القلبية الباطنة التي يحبها الله، ويتخلى عن الأعمال القلبية والاعتقادات التي يبغضها الله عز وجل.
يصف الشيخ السعدي رحمه الله تعالى القلب السليم بقوله:
“والقلب السليم معناه: الذي سلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنب. ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها من الإخلاص والعلم واليقين ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تابعة لمحبة الله وهواه تابعا لما جاء عن الله”. (2تفسير السعدي عند قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم))
وقد وضع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تعريفا جامعا مانعا للقلب السليم ترجع إليه جميع الصفات والأعمال القلبية. ولأهمية هذا التعريف فقد كرره في أكثر من موطن. في مدارج السالكين وفي كتاب مفتاح دار السعادة، وفي كتابه الفوائد، ومواطن أخرى.
فقال في منزلة (التسليم):
“اعلم أن «التسليم» هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض القدر والشرع. وصاحب هذا التخلص هو صاحب القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به”. (3مدارج السالكين: (2/ 147))
ولو تأمّلْنا سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لرأينا حياة عظيمة كريمة، ملؤها الطهر والصفاء والتسليم، ومنبعها صلاح السريرة وسلامة القلب المتمثل بتجريد المحبة والتسليم والإخلاص والخوف والرجاء لله عز وجل. وعلى رأس هذه القافلة المباركة من أنبياء الله عز وجل ورسله خليلاه إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
خلوص سريرة الخليلَيْن
وقد قص الله علينا في كتابه الكريم نماذج من تسليم إبراهيم عليه السلام لربه، استحق من ربه سبحانه وتعالى وصفه له بقوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84]. ومن أعظم هذه النماذج ما قصه الله عنه عليه الصلاة والسلام حينما أمره بذبح ابنه الحبيب إلى قلبه الذي جاءه في آخر عمره وعلى حين فاقة وحاجة للولد. قال الله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات:101-105]. فظهر من هذه القصة تسليم الأب وابنه عليهما السلام لأمر الله.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذا التسليم العظيم من إبراهيم وابنه عليهما الصلاة والسلام:
“لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.
إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص..! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بها يفعل، المطمئن لما یکون. لا بل هنا الرضى الهاديء المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل..!
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أدَّيا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه.. وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما..”. (4في ظلال القرآن: (5 / 2996))
أما خليله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيكفيه ثناء الله عز وجل له بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، وهذا يشمل الأخلاق الباطنة والظاهرة.
خلوص سريرة الصِّدّيقِين
ثم يأتي بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في صلاح السريرة وسلامة القلب الصديقون، وعلى رأسهم صِدّیق الأمة الأكبر أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، الذي ظهر صلاح سريرته وصفاء باطنه في مواطن كثيرة من حياته، منها موقفه من دعوة النبي ومسارعته إلى أن يكون من أول الداخلين في الإسلام، ومنها مبادرته رضي الله عنه إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في إسرائه إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء ورجوعه إلى المدينة في ليلة واحدة في وقت ارتابت فيه قلوب كثيرة وأجلب المشركون يشككون في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن أجل هذا التسليم واليقين، قال أبو بكر المزني رحمه الله تعالى:
“ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه”.
قال ابن علية معلقا على هذا القول:
“الذي في قلبه الحب لله لك والنصيحة في خلقه”. (5انظر غذاء الألباب: (1/ 48))
ورفعه بعضهم بلفظ «ما فضل أبو بكر بفضل صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه» ذكره الغزالي في الإحياء. وقال العراقي: لم أجده مرفوعا، وهو عند الحكيم الترمذي في النوادر من كلام بكر بن عبد الله المزني. وفي لفظ:
«ما فاتكم أو فضلكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة، ولكن بشیء وقر في صدره». وكل ذلك لم يصح مرفوعا، والله الموفق. وقال الفضيل بن عياض: “ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة”. (6المرجع السابق)
خلاصة
والمقصود مما سبق بيان حقيقة القلب السليم، وحقيقة السريرة الصالحة، وأنها تقوم على التحلي والتخلي. التحلي بالأعمال والاعتقادات القلبية الصالحة التي هي أساس صلاح الأعمال الظاهرة، والتخلي عن الأعمال والاعتقادات القلبية الفاسدة والسلامة من الاعتراضات التي تُفسد على القلب تسليمه لخبر الله عز وجل في كتابه و خبر رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة وتُفسد عليه تسليمه لأمر الله عز وجل الشرعي وأمره القدري، وسلامته من الإرادات الفاسدة التي تفسد عليه محبته وإخلاصه وتوكله وخوفه ورجاءه الله تعالى.
………………………..
الهوامش:
- لسان العرب: (3/ 1989).
- تفسير السعدي عند قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم).
- مدارج السالكين: (2/ 147).
- في ظلال القرآن: (5 / 2996).
- نظر غذاء الألباب: (1/ 48).
- المرجع السابق.
المصدر:
- كتاب “يوم تبلى السرائر”، ص17-24. فضيلة الشيخ عبد العزيز الجُليّل.