الاصطلاح في اللغة: مصدر اصطلح بمعنى اتفق؛ وذلك كما يقول الجرجاني – رحمه الله تعالى – في كتابه التعريفات: (الاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقله عن موضعه الأول . وقيل: هو إخراج اللفظ عن معنی لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل: الاصطلاح لفظ معین بین قوم معينين)1(1) التعريفات ص28..
توظيف المصطلحات والتلاعب بها
ومع ما في المصطلحات من فائدة كبيرة في كونها وسائل للتفاهم بأقصر طريق، وأوضح دلالة، وأقل مجهود؛ ما دامت مقيدة بالكتاب والسنة – كما رأينا ذلك عند علماء الأصول والأحكام – إلا أنها ظلمت عند قوم تلاعبوا بها ووظفوها في التلبيس على الناس وإضلالهم، فشوهوا بها الحق، وزينوا بها الباطل.
ويصف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله تعالی – هذا التلاعب فيقول: (إن ظلم الكلمات بتغيير دلالاتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم ؛ كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بني على هذه المقدمات الكاذبة)2(2) عيون البصائر، نقلا عن حمدي عبيد (المصطلح وإشكالية الاصطلاح)، مجلة البيان، العدد (140)، ص112..
وجوب تحرير المصطلحات وضبطها ضبطاً محكماً في حدود الشرع
والمصطلحات إذا لم تحرر ولم تضبط فإنها تؤدي إلى انحراف في الفهم والإفهام، ونلمس هذا من تحذير الرب عز وجل للصحابة الكرام رضي الله عنهم من استعمال لفظ يحمل أكثر من دلالة في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ناهيا لهم أن يتشبهوا باليهود في مقالهم الذي أرادوا منه المعنى السيء؛ يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[البقرة: 104]. ذلك أن لفظ (راعنا) يحتمل معنى (انظرنا) – وهذا معنی حسن – كما أنه يحتمل اشتقاقه من (الرعونة) – وهو مراد اليهود . لذا وجه الله سبحانه إلى استعمال مفردة جديدة صريحة في دلالاتها على الإنظ3(1) التعريفات ص28.ار والإمهال، لا تحتمل المعنى الآخر؛ وهي قوله: (انظرنا).
المصطلحات رسائل فكرية موجهة
(والمصطلحات من أشد العناصر الثقافية أثرا وفتكا في ثقافات الشعوب. ومع أن المصطلح لا يتجاوز كلمة أو كلمتين أو ثلاث، ولا يتعدى ذلك إلا نادرا، إلا أن هذه الكلمة قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها. ولها مفعول السحر الذي يستعصي فهمه على المنطق وقوانين العقل . وغالبا ما تكون بعيدة عن المحاكمات المحددة، ملتبسة بأثر العواطف والغرائز، وتكتسب – من خلال استعمالها بين شعب وشعب، وظرف وظرف ۔ ظلالا، ويصبح لها في مسيرها تضاریس ناتئة، وانهدامات غائرة، وتنعكس عليها آثار النفوس من حقد وحسد وضغينة وانتقام، وتصرخ من بين حروفها الأهواء والعواطف الملتوية التي تغلف التواءها بكثير من الادعاء والتطاول وحب التغلب والسيطرة.
والمصطلح باختصار هو (حبة) أو (جرعة) سحرية، يتناولها فرد أو جماعة، فتحول اتجاه تفكيره أو تفكيرهم من جهة إلى جهة، إن لم تفقده التفكير أصلا)4(3) مجلة البيان، العدد (9)، الافتتاحية ..
ويقول الأستاذ سعد آل عبد اللطيف: (تشهد الساحة الإسلامية في المجال الفكري فوضى في الاصطلاحات؛ فهذا يجعجع بالمصطلحات المحدثة نابذا خلفه المصطلحات الشرعية، وذاك يستتر بباطله خلف المصطلحات الشرعية لتزيين الباطل وترويجه بين الناس، والآخر يرفض جميع الاصطلاحات المحدثة ولو كانت ذات معنى صحيح . إن تحديد الاصطلاحات وتوضیح مدلولاتها يساعد كثيرا على إزالة الإشكال في الفهم، وحسن الظن بالآخرين، والوصول إلى الحق، وتضييق دائرة الخلاف، ويغلق الباب أمام سيل جارف من الشرور والفساد، ويحول دون تسلسل دعاة الزندقة وأهل الأهواء إلى الساحة بترويج أباطيلهم وبدعهم)5(4) مجلة البيان، العدد (86)، ص21..
المصطلحات الشرعية الواردة في الكتاب والسنة واضحة بيّنة
ويفرق شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – بين المصطلحات القرآنية والألفاظ الحادثة فيقول: (والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بغيرها ؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها ، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا ينقضي عجائبه، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق، وقد يضطرب في معناه، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس. فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام؛ كما قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) [آل عمران: 103]، ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث وبين معناها بيانا شافيا: فإنها لا تنتظم فقط جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة، بل فيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل؛ کما قاله – سبحانه -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9])6(5) النبوات ص 333، 334..
ويشير – رحمه الله تعالى – إلى خطورة الاصطلاحات المجملة التي تحمل حقا وباطلا ، فيقول: (ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعاني مشتبهة)7(6) مجموع الفتاوی 12/114..
خطورة المصطلحات المستحدثة
ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان: هو حق من أحدهما، باطل من الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح ویکون مراده الباطل، فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة. فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟ فسل مقلب القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات)8(7) الصواعق المرسلة 3/ 927..
ويقول في موطن آخر: (فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها؛ فإنها أصل البلاء، فإذا سمع ضعیف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ: اتصال وانفصال، ومسامرة ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهم بمنزلة وجود الظل القائم بغيره: فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات. والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم، فخلط الغالطون في فهم ما أرادوه، ونسبوه إلى إلحادهم وكفرهم، واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم وجنة)9(8) مدارج السالكين 3/ 158..
لا مشاحة في المصطلحات المستحدثة إن وافقت الكتاب والسنة
ويرسم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – المنهج الصحيح للتعامل مع المصطلحات الحادثة التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، فيقول:
(وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام، فلا تلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها، فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول، وإلا كان من المردود، ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا، كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا)10(9) درء تعارض العقل والنقل 5/58..
ويقول أيضا رحمه الله: (وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة؛ كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم ؛ إن هذا جائز حسن للحاجة)11(10) مجموع الفتاوی3/306-308..
ثم يقول بعد ذلك: (والسلف والأئمة الذين ذموا وبدعوا أهل الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل في المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين؛ في دلائله، وفي مسائله؛ نفيا وإثباتا .
فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه ؛ كما قال تعالى: (كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ) [البقرة: 213]، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم، ثم اعتبار هذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف)12(11) درء تعارض العقل والنقل 5/ 58..
خطورة الغزو المصطلحي على الأمة
والحاصل أن إلمام المسلم بميزان الكتاب والسنة المبرء من الخلل والشطط هو الذي يؤهله ليكون أبعد الناس عن الانسياق وراء الشعارات والمصطلحات المضللة مهما كان بريقها، ومهما كان مكر الأعداء في التلاعب بها. وفي واقعنا المعاصر يظهر لنا خبث أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين؛ وذلك في التلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس بها، ونشرهم ذلك في وسائل الإعلام المختلفة التي يتحكمون بها، والتي ما تفتأ تبدئ وتعيد في طرح المصطلحات الغامضة والتلاعب بها في إضلال الناس وغسل أدمغتهم، وجعلها مع الوقت والتكرار أمرا مسلما ومقبولا لا يحتمل النقاش.
ولنضرب مثالا لذلك مصطلح: التسامح والسلام؛ حيث حول من معناه الشرعي الصحيح إلى أن يكون أداة لهدم عقيدة الولاء والبراء، وإبطال شعيرة الجهاد في سبيل الله .
ومثال آخر مصطلح: التجديد الذي ظاهره الرحمة وباطنه فيه تبديل الدين وتفريغه من ثوابته ومضامينه.
الهوامش
(1) التعريفات ص28.
(2) عيون البصائر، نقلا عن حمدي عبيد (المصطلح وإشكالية الاصطلاح)، مجلة البيان، العدد (140)، ص112.
(3) مجلة البيان، العدد (9)، الافتتاحية .
(4) مجلة البيان، العدد (86)، ص21.
(5) النبوات ص 333، 334.
(6) مجموع الفتاوی 12/114.
(7) الصواعق المرسلة 3/ 927.
(8) مدارج السالكين 3/ 158.
(9) درء تعارض العقل والنقل 5/58.
(10) مجموع الفتاوی3/306-308.
(11) درء تعارض العقل والنقل 5/ 58.
اقرأ أيضا
الغزو المصطلحي (1-2) دلالة المصطلحات على مفاهيم الأمم
الغزو المصطلحي (2-2) تبعية المصطلحات، والصراع الفكري