«إننا طلاب شهادة ولسنا نحرص على هذه الحياة، هذه الحياة تافهة رخيصة، نحن نسعى إلى الحياة الأبدية..»..

الشيخ الشهيد أحمد ياسـين

الشهيد المجاهد “أحمد ياسـين”

هذه العبارة هِيَ آخر ما شاهدناه متلفزًا للشيخ الشهيد المجاهد “أحمد ياسـين” [١٩٣٦ – ٢٠٠٤م] مؤسس حركة المقـاومة الإسـلامية حمـاس، والذي تمر علينا اليوم -22 مارس 2024م..- الذكرى العشرون على مؤامرة جريمة اغتياله الآثمة، بعد حياة مديدة أوقفها للدعوة والجهاد والرباط في سبيل الله تعالى..

فكان مثل الطود الشامخ والجبل الشاهق رغم ضعف بنيته وشلل أطرافه، مبرهنًا على أن الرجولة لا تقاس بقوة الأجسام ولا بصحة الأبدان بل بعلو الهمة وعزة النفس وقوة القلب العامر بالإيمان، وقد حذّر اللهُ تعالى نبيه محمد ﷺ من المنافقين في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ…﴾ [المنافقون: آية ٤].

أحمد يايسين وتأثره بفكر الإمام الشهيد “حسن البنا”

ومن ثمّ فلم يترك الشيخ العظيم عذرا لأحد في القعود والتخلف عن بذل الوسع في الجـهاد واستنفار الأمة. وأعانه على ذلك قدراته الخطابية العالية التي اكتسبها من دراسته الأزهرية وتأثره بفكر الإمام الشهيد “حسن البنا” في العمل على تحرير البلاد والعباد من دنس الاحتلال الصـهيوني.. ودفع في سبيل ذلك ضريبة فادحة من السجن والنفي ثم الشهادة التي كان يطلبها بصدق–كما رأينا في كلمته الأخيرة بصدر المقال– فصدقه الله عزّ وجل. وكيف لا وقد كان يخطب في الناس بحديث رسول الله ﷺ الذي سمعَ رجلاً يقول؛ اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فقال له ﷺ : «إذن يُعقر جوادك، وتستشهد»..

أحمد يايسين في سجون عبدالناصر

وقد كان أول جزء من تلك الضريبة –بكل أسف– في السجون المصرية على يد النظام الناصري سنة ١٩٦٥م، حيث تم إعتقاله وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر ثم أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين!.

ولكن تَركتْ فترة الاعتقال في نفسه آثاراً عميقة وذكرياتًا أليمة، ووقعًا سيِّئًا عن أحوال الأنظمة في البلاد الإسلامية لخصها بقوله: «لقد عمّقت تلك الفترة في نفسي كراهية الظلم، وأكدت أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل ومدى إيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية»..

شيخ أتقن صناعة الرجال وتربيتهم

ثم توالت حياته الملحمية بعد ذلك التي قضى جُلّها في صناعة الرجال وتربيتهم من أجل مجاهدة عدو الأمة ومقاومـة الاحتلال فضلا عن إشعال الانتفاضات الشعبية، والصبر والصمود على سنوات الاعتقال داخل سجون الصـهاينة اليـهود وسجون المتصهينين من السلطة الفلسطينية التي تكفلت بحفظ أمن إسرائيل في اتفاقيات أوسلو ومدريد!.

“أرييل شارون” يغتال الشيخ القعيد..

إلى أن اغتالته صواريخ الطائرات الصـهيونية وهو خارج من مسجد المجمع الإسلامي القريب من منزله في حي الصبرة جنوب مدينة غزة ومعه ثمانية آخرون استشهدوا، وآخرون جرحوا، عقب تأديتهم لصلاة فجر يوم الاثنين ١ صفر ١٤٢٥هـ الموافق ٢٢ مارس ٢٠٠٤م..

ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتسع هذه السطور القليلة للحديث عن تلك الحياة الملحمية العظيمة المليئة بمواقف مثالية في التربية والدعوة والإرشاد والقيادة والجهاد، ولذا أدعو القارئ إلى المزيد في موسوعة الدكتور “توفيق الواعي”: “شهداء الحركة الإسلامية في العصر الحديث” والتي أفرد في جزئها الأول مساحة واسعة تحت عنوان الشهيد الرائد البطل أحمد ياسين ..

دروس توعوية حملها إلى الأمة ذلك الحادث الجلل المروع

أما ما سوف أركز عليه هنا فهو ما استوحيت فكرته من خلال كتاب “في وداع الأعلام” للعلامة الشيخ الدكتور “يوسف القرضاوي”، وتحديدا ما كتبه من دروس توعوية حملها إلى الأمة ذلك الحادث الجلل المروع الذي أقدمت عليه حكومة السـفاح “أرييل شارون” باغتيال الشيخ القعيد..

حيث كتب “القرضاوي”: «إن أمريكا شريكة في المسؤولية عن هذه الجريمة وما سبقها من جرائم. فإسرائيل ترتكب مجازرها بسلاح أمريكا ومال أمريكا وتأييد أمريكا، وهي لا تقبل أن تؤدَّب إسرائيل أو تُدان أو توجه إليها كلمة لوم، وإلا فإن (الفيتو) الأمريكي بالمرصاد.

المتهم الأول هو الرئيس “بوش”

ولو كنت قاضياً يحكم في هذه الجريمة ويحاكم القتلة والجناة فيها، لكان المتهم الأول عندي هو الرئيس “بوش”، فهو المحرض الأول على الجريمة وهو الذي أعطى المجرم السلاح، وهو الذي يعدُّ المجرمَ القاتلَ مدافعًا عن نفسه.

“بوش” هو الذي أفتى بأن المقاومة الفلسطينية إرهابية وفي مقدمتها “حمـاس” و”الجـهاد”، ومعنى أنها إرهابية، أنها تستحق القتل، وأن لا عقوبة على من قتل الإرهابيين، وهكذا قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: “إن أحمد ياسين كان ممن يستحق القتل”.

هذا هو منطق أمريكا وإسرائيل أو منطق بوش وشارون، أحمد ياسين إرهابي مجرم يستحق القتل، لأنه يدافع عن وطنه، عن أرضه وعرضه، عن منزله ومزرعته وشجرة زيتونه، عن حرماته ومقدساته. اما “شارون” القاتل فهو ضحية مسكين لا يمكّنه الفلسطينيون الأشرار أن يلتهم كل ما يريد من أراضيهم»!.

المتهم الأول ذلك الخائن لدينه ووطنه وجنسه

وعلى الرغم من إقراري بصحة ما ذهب إليه العلّامة “القرضاوي” إلا أنني أخالفه الرأي في ترتيب المتهمين، إذ لا أرى في الرئيس الأمريكي المتهم الأول وذلك لأنه يفعل ما تقتضيه طبائع العدوّ الذي لا يربطه بنا دينٌ أو عرقٌ أو لغة أو جوار، وإنما المتهم الأول من وجهة نظرى هو ذلك الخائن لدينه ووطنه وجنسه المتحالف مع عدوّ الأمة ضد ذوي رحمه، حتى زكّاه أحد أهم وزراء دولة الكيان “بنيامين بن إليعيزر” قائلا: «الرئيس حسني مبارك بمثابة كنز استراتيجي بالنسبة لإسرائيل»!.

فمن اطلع جيدا على خطوات إنشاء الكيان الصهيوني وخاصة ما جاء في الكتاب الضخم البالغ الأهمية “وعليكم السلام” للأستاذ محمود عوض، يعلم يقينا أنه لا مجال للمصادفة في أفعال الصـهاينة، بل التخطيط والتدبير وطول الأناة والإفادة من نقاط ضعف المنافس هو السمة الغالبة من أجل تحقيق أهدافهم..

التنسيق بين المحتل والقاهرة لتأمين العمليات القذرة

لذلك لم يكن من قبيل الصدفة زيارة “سيلفان شالوم” وزير الخارجية الصـهيوني للقاهرة قبل أيام قليلة من عملية اغتيال الشيخ “أحمد ياسين”، وذلك قبل سفره إلى واشنطن لتأمين العملية القذرة!.

ولو رجعنا إلى الوراء قليلا فى محاولة لتنشيط الذاكرة العربية المتخمة بالأحزان والخيانة، لنتذكر زيارة “مبارك” إلى أمريكا في أبريل ٢٠٠٢م، وقبل عودته للقاهرة يعلن الرئيس الأمريكى “بوش الابن” أنه أعطى الضوء الأخضر للسفاح “أرئيل شارون” باجتياح الضفة وجنين. ومن ثمّ قامت القوات الصـهيونية بقيادة الجنرال “شاؤول موفاز” بهدم مخيم جنين على رؤوس من فيه، ووقعت مذبحة بشعة راح ضحيتها مئات الفلسطينيين وفقًا للروايات الإسرائيلية!.

ليس هذا فحسب، فعلى الرغم من رد الفعل الشعبي الغاضب من جرّاء اغتيال الشيخ القعيد بهذه الصورة الوحشية وبمباركة أمريكية معلنة، قام مبارك بزيارة أخرى إلى أمريكا، وبعد يومين فقط من قمة (مبارك – بوش) في مزرعة تكساس في ١٢ أبريل ٢٠٠٤م، يقوم “بوش” بمنح الإسرائيليين وعدهم الجديد بعدم عودة اللاجئين، وهو حق لا يستطيع الفلسطينيون أنفسهم التنازل عنه.. ثم بعدها بساعات محدودة يقوم “شارون” بخسته المعهودة بإعطاء أمر اغتيال الدكتور “عبد العزيز الرنتيسى” خليفة الشيخ “أحمد ياسين” في قيادة المقاومة الإسلامية ومرافقيه من قادة حـماس الذين استشهدوا في ٢٠٠٤/٤/١٧م بعد ضرب سياراتهم بثلاثة صواريخ أطلقتها طائرات الأباتشي التي قدمت الإدارة الأمريكية أسرابًا منها إلى تل أبيب، دون أى اعتبار للغضب العربي!..

انقلاب في سياسات مبارك اتجاه الكيان المحتل

وسياسات “مبارك” تلك المنحازة إلى مصالح الدولة العبرية مع مطلع الألفية الجديدة تختلف تماما عن سياسته تجاهها في بداية الثمانينات حيث قام في سبتمبر سنة ١٩٨٢م بسحب السفير المصري من تل أبيب احتجاجا على ضرب الفلسطينيين في لبنان وطالب بتحديد المسؤولية عن مذابح صبرا وشاتيلا والانسحاب من لبنان كشرط لإعادته مرة أخرى.

وهو ما يتناقض تماما مع ما ذكرناه سابقا في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية [٢٠٠٠-٢٠٠٥م] وما ختم به حياته من الدور المخزي في حصار غزة أثناء العدوان الغاشم عليها في عملية “الرصاص المصبوب” ديسمبر/يناير ٢٠٠٩م!.

وربما يفسر كل ذلك طول مدة الحكم التي تطغي وتطمع في توريثه للأبناء وكأنه ملكية خاصة يفعل بها ما يشاء.. ﴿وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: آية ٥١]..

ولذا كانت كل تلك المواقف والتنازلات المجانية ثمنا لا بد من دفعه مقايضة بموقف أمريكي-إسرائيلي لتمرير مشروع التوريث. وصارت حماس التي تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين وصعودها في غزة خطرًا مشتركا يهز أركان العرش في مصر كما يضعضع قواعد مثيله في تل أبيب..

المصدر

صفحة الأستاذ أحمد الشريف.

اقرأ أيضا

رجل غيّر الأحداث .. حسن البنا

علماء مجاهدون .. “عمر الأشقر” نموذجا

علماء يستضاء بعلمهم في وقت الأزمات؛ ترجمة الشيخ “عبد الرحمن البراك”

التعليقات غير متاحة