المؤمن يحمل قيمة كبيرة في هذا العالم، وهو صاحب رسالةٍ العالمُ أظمأ اليها من الماء البارد للظمآن في الهجير. فاعرف قيمتك واستأنف دورك يرحمك الله.
أمة ترمز لحقيقة
كان وجود الأمة الإسلامية في كل ناحية من نواحي العالم رمزا لحقيقة غير الحقائق المادية واللذّات الجسدية، وكان كل فرد من أفراد هذه الأمة يعلن للعالم ـ وليدا أو ميتا ـ أن وراء القوى المادية قوة سماوية ووراء الحياة الفانية حياة خالدة، فإذا ولد وليد صُرخ في أذنه بهذه الحقيقة (1يقصد الأذان والإقامة في أُذُن المولود، سنةً عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وإذا مات فارَق الدنيا بهذه الشهادة.
تلبية نداء الروح
إذا ساد على هذا العالم جمود أشبه بالموت، وغاص الناس في بحر الحياة إلى أذقانهم، واختفت كل حقيقة وراء الحقائق المادية، إذا بصوت يدوي “حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح” فينكسر طلسم العالم المادي، وتتجلى الحقيقة الروحية، ويجري الناس وراء هذا الصوت، وقد نفضوا أيديهم من أشغالهم وخروا أمام ربهم.
وإذا ضرب الليل رواقه، ومد النوم أطنابه على هذا العالم الحي الصاخب، فإذا هو مقبرة واسعة ليس بها داعٍ ولا مجيب، إذا بمعين الحياة ينصب في وادي الموت، فينبلج الصبح الصادق في الليل الغاسق، وتتلقى الإنسانية الناعسة من مؤذن الفجر درسا في الحياة والنشاط والكدح والكفاح، والشكر والعبادة.
وإذا اعتز أحد بقوته وسلطانه، وزها بكثرة ملئِه وأعوانه، وقال بلسان المقال أو بلسان الحال: “أنا ربكم الأعلى” أو “ما لكم من إله غيري” قام رجل متواضع على منصة عالية في كل بقعة من بقاع مملكته، أو نفوذه، ونادى “الله أكبر الله أكبر” فينادي بحُكم الله في مملكته ويرغم أنف الإله الكاذب في سلطانه.
إذا هاجرت جالية مسلمة من رقعة من رقاع هذه الأرض، أو أُجليت منها، لم يصب نظام المعيشة بشلل أو خلل، وظل الناس يتكسبون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وظلت رحى الحياة تدور دورها الطبيعي، ولكن روح ذلك المجتمع الإنساني تفارق جسده فيصير جثة هامدة لا حياة فيها ولا روح.. كذلك كان في “أسبانيا”، وكذلك كان في كل بقعة انسحب منها المسلمون أو أجلاهم عنها أهلها، وهل “أسبانيا” الحاضرة إلا مدنية بلا روح، وحياة بلا مبدأ، وأمة بغير رسالة للعالم..!
إن المؤمن وحده هو صاحب عاطفة في هيكل العقل والمادة الذي لا يُعبد فيه إلا النفس والبطن، وهل الحياة إلا بالعاطفة..؟ وهل الدنيا إذا ماتت العاطفة، وغلب العقل، وحكمت المادة، إلا سوق تجارة أو ميدان حرب..؟ فإذا ثار المؤمن للحق كسر طلاسم العقل، وفك سلاسل الكون، وحطم أصنام المادة، وأملى على العالم إرادة الله، فإذا هو مطيع خاضع وإذا هو متواضع خاشع، قلَب تيار الحياة وغيَّر وجه التاريخ، وأرغم الكون على أن يسير سيرته.
المؤمن هو الذي يستطيع أن يفضل الفقر على الغنى، والآخرة على الدنيا، والنسيئة على النقد الحاضر، والغيب على الشهود، والدين على الحياة في كل دور من أدوار التاريخ، مهما بلغت المادة أوجها.
ليس لقُطر من الأقطار أن يمنَّ على الإسلام بأنه فسح له في أرضه، وإنما الفضل والمنة للإسلام على كل قُطر، فقد ألقى عليه درسا في التوحيد الذي لا يشوبه شرك، وحب الإنسانية العامة واحترامها، ووسَّع أفق خياله فصار يرى للحياة معنى غير معنى، وللإنسانية مستوى أرفع من مستواها القديم، وعالَما أفسح من وَكْره الذي يعيش فيه، إنه وضع عن كل أمة إصرها، والأغلال التي كانت عليها، وأنقذها من العنصرية والجنسية والوطنية، وعبادة المال والبيوتات، والأشجار والأحجار، والحيوانات والأنهار، والأرواح والأجرام السماوية، ومن الرهبنة الفاتكة بالمدينة، والعَزَبة القاطعة للنسل، وهو الذي طلسم الأوهام التي مضى عليها قرون، ودرج عليها أجيال، أطلق العقل من أساره، ورفع الحجر عن العلم، ونسخ احتكار البيوتات للدين، ورسم في الذهن منزلة العمل الفردي، والسعي الشخصي، واستقلال كل إنسان بعمله ومسئوليته.
فضل الإسلام في تقدم العالَم
ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الفضل في تقدم العالم، وقطع مراحل المدنية والعلم، إنما يعود إلى الإسلام..؟
ومن الذي يجهل اليوم أن الفضل في تقدم أوربا وتخلصها من رق الأحبار والرهبان، وسلاسل الكنيسة والحكم المطلق، وفي العكوف على العلوم الطبيعية والتجريبية، والخروج من الهمجية إلى الحضارة، إنما يعود إلى الأندلس الإسلامية التي ظلت قرونا طوالا مشعل الثقافة، ومنبع العلم، ومدرسة الفن والتهذيب في العصور المظلمة..!
إن كلمات العدل والمساواة، والإنسانية منتشرة ذائعة اليوم في كل ناحية من نواحي الهند، وبارزة على كل صفحة من صفحات أدبائها وكتابها، وخفيفة على لسان كل خطيب ومتكلم، ومن ذا يكابر في أن الإسلام هو الذي عرّف هذه الكلمات إلى أهل هذه البلاد، وسعى في رواجها وذيوعها في بلاد لم تكن تعرف هذه الكلمات ومعانيها..؟!
الإسلام رسالة وليس قومية
إن المسلمين ليسوا نسلا أو شعبا فحسب، وليس الإسلام عادات وتقاليد وتراثا يتوارثه ولدٌ عن أبيه، إنه دعوة ورسالة، وحياة وعقيدة، تقتضي بالطبع، أن يكون نظر المسلم أوسع من الماديات المحسوسات، ومن عالم النفوس والبطون، ووطنه أوسع من المنطقة الصغيرة التي ولد فيها، وأن يكون قلبه عامرا بحب كل إنسان كائنا من كان، وأن لا تكون الأوطان والأنساب عائقا، في سبيل حبه وعطفه، وأن لا يكون سعيه منحصرا في نطاق الحياة الضيق.
ويلزم لكل من يدين بهذا الدين أن يحمل للبشرية رسالة للروح والقلب، والعاطفة والسياسة والاجتماع، ويملك قوة أخلاقية تراقبها في النور والظلام، والوحدة والاجتماع، والعجز والمقدرة، عنده أساس متين من العلم، وبينات ومحكمات في المدنية، وحياة نبي كان ولا يزال المثل الكامل للبشرية في مختلف ظروفه وأحواله، ومختلف عصوره وأجياله، وكل عصر وقطر، ومفزع الإنسانية في كل ساعة عصيبة، وكلما حلت بها أزمة عجزت عن حلها العقول البشرية، والنظم الاجتماعية والسياسية.
إذا حجب الليل النهار، وهجمت جنود الهوى من كل جانب، وهُزمت الفضيلة والأخلاق، وإذا أصبح الإنسان ينحر أخاه لأجل “فِلْس” أو لأجل قرص، وإذا أصبحت الشعوب الكبيرة تزدري الشعوب الصغيرة في سبيل الجشع أو الخيلاء، وإذا صار وثن المال يُعبَد على قارعة الطريق، وإذا ضُحي بألوف من الناس على أنصاب الجنسية والوطنية، وإذا حال الإنسان بين الإنسان ورزقه..
إذا التهبت نار الشهوات، وانطفأ نور القلب..
إذا نسي الإنسان الموت، وعكف على الحياة يعبدها..
إذا غلا الجماد والمعادن، ورخص الإنسان في سوق العالم، فصارت المدن العامرة تسوَّى بها الأرض، وألوف من البشر يقتلون في دقائق وثوان بالقنبلة الذرية..
إذا تغلبت الأمم الأوربية على العالمَ، وجعلته بيت المقامرين، أو سوق الجزارين، وعبثت بالإنسانية عبث الوليد بجانب القرطاس، وتلاعبت بالأمم كالكرة..
إذا ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، هنالك يستصرخ هذا الكون المؤمن، ويستغيث به، وهنالك تناديه الإنسانية باسم الإسلام الذي طلع كالصبح الصادق في ظلام الليل الحالك، وباسم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أغاث الله به الإنسانية في احتضارها وانتحارها، وحفظ به مهجة الإنسانية، وأدال به من الجاهلية الجهلاء.
نداء ينتظر الإجابة
هل يسمع المؤمن في جزيرة العرب التي أشرقت منها شمس الإسلام، وفي حواضر البلاد العربية في آسيا وافريقيا، وفي الأقطار الإسلامية عامة، صراخ الإنسانية وعويلها، فيهبّ من نومه العميق الطويل الذي مله العالم، ويثِب كالأسد، وينقضّ كالصقر على أعداء الإنسانية..؟
إنه بذلك لجدير وبحول الله على ذلك قدير، فهو معقل الإنسانية، ومنتهى الرجاء، وأمين الله في الأرض وخليفة الأنبياء.
…………………………….
هوامش:
- يقصد الأذان والإقامة في أُذُن المولود، سنةً عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
المصدر:
- كتاب “إلى الإسلام من جديد”، 23-37. المؤلف: أبو الحسن الندوي (المتوفَى: 1420هـ).