يحتاج المؤمن الى تصحيح تصوره؛ حتى يرى الأمور على حقيقتها؛ فثمة سنن لله تعالى في الدنيا، وثمة حكمة يُجري الله بمقتضاها الأمور، ومنها البلاء، ومن البلاء الخوف. وأما الآخرة فشأنها الأمن التام بعد النجاح في اختبار الدنيا.
مقدمة
إن الأمن الذي يشعر به المؤمن في طاعة الله عز وجل، ويجده في محبة الله تعالى والأنس به، واليقين بلقائه؛ لا يعني أنه لا يتعرض للخوف والفزع في الدنيا؛ بل إن من سنة الله عز وجل في عباده المؤمنين أن يبتليهم ويمحصهم بصنوف من البلاء.
ومن أنواع البلاء: المخاوف والهموم والأذى الذي يتعرضون له من أعداء الله عز وجل؛ لكنهم بما عندهم من الإيمان، والتوكل على الله تعالى، والثقة في كفايته، ورجاء الأجر عنده يوم القيامة.. كل ذلك من شأنه أن يخفف عليهم المخاوف ويسكب في نفوسهم الأمن والطمأنينة والسكينة والثبات. والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة.. فهؤلاء أنبياء الله تعالى وصفوته من خلقه لم يتعرض أحد من البشر إلى الأذى والمخاوف مثل ما تعرضوا له، ولكنهم واجهوا ذلك كله بالطمأنينة، والاستعانة بالله تعالى وتفويض الأمور إليه.
أمثلة لما وقع من المخاوف للأنبياء
فهذا إمام الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام تعرض للمخاوف وصنوف الابتلاءات فثبته الله تعالى وأبدله الله تعالى بالأمن والأمان. قال الله تعالى عن محاولة قومه إحراقه: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:98-99].
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «”حسبنا الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل». (1البخاري (513))
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام حينما ألقته أمه رضيعا في التابوت ثم في البحر وخافت أمه عليه؛ قال الله عز وجل: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7].
ولما هدد فرعون موسی بالقتل قال تعالى عنه: ﴿وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [غافر:27].
وقال تعالى عن حالة الأمان التي تمكنت من قلب موسي عندما أدركه فرعون وقومه عند البحر: ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 90-92].
وهذا سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لمّا أدركه الطلب من قريش وهو مختفٍ في غار ثورـ وذلك في حادث الهجرة ـ قال الله عز وجل عنه: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].
وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما حصل لهم ما حصل يوم أحد من الخوف والفزع، ثم جاءهم الخبر بعد انتهاء المعركة أن قريشا تريد الرجوع لاستئصالهم.. قال الله عز وجل في وصف حالة الأمن التي واجهوا بها هذه المخاوف: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173] بل إن الله عز وجل قد أنزل على طائفة منهم النعاس في جو المعركة قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ…﴾ الآية [آل عمران: 154].
هل يصد الخوف عن الهدى..؟
قد يزين الشيطان لبعض الناس، ويصدهم عن الهدى بتخويفهم أن يتخطفهم الناس، ويتعرضوا للخوف والأذى إن هم آمنوا واستقاموا؛ وذلك عندما يرون المؤمنين وهم يؤذَوْن ويُبتَلون ويُمتحَنون. ولكن هذا من تزيين الشيطان. وقد ذكر الله عز وجل هذا الموقف من كفار قريش وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص:57].
“فهؤلاء لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوی الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله..
ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطَها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلِموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدی موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وَهْما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب، إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدي الله يستمد ما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة…
إنها النظرة السطحية القريبة، والتصور الأرضي المحدود، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدي الله يعرضهم للمخافة، ويغري بهم الأعداء، ويُفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار. وإن الكثيرين ليُشفقون من اتّباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية..! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله: ﴿إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ فلمّا اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمَن الذي وهبهم الأمن..؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام..؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا..؟ تتجمع في الحرم من كل أرض وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص:57].
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكّن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم..؟ أفمَن أمَّنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة..؟!
﴿وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله”. (2انظر في ظلال القرآن (باختصار) 5/ 2700- 2703)
خاتمة
إن نزول الخوف وتكدير أمن المؤمنين هو من لوازم الابتلاء والتمحيص وهو سنة ربانية على طريق التمكين لأولياء الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:105] وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
والناس يتساوون في الرخاء ويتباينون في الشدة. وهذا من حكمة الابتلاء بالمخاوف ونهايته أمن الصف المسلم من الدخلاء وزيادة الإيمان والتسليم للمؤمن قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].
……………………..
الهوامش:
- البخاري (513).
- انظر في ظلال القرآن (باختصار) 5/2700- 2703.