ما أعظم ما يمارَس اليوم على المسلمين من الكذب على الله تعالى بالتأويل ونسبة المفاهيم المخترعة على النمط الغربي الى دين الله. وهي جريمة فاحشة ينبغي دحضها.
مقدمة
ذكر الله تعالى في كتابه ظاهرة “الكذب على الله” في مواضع كثيرة جداً، ولا يُكثر القرآن من ذكر أمر من الأمور إلا انعكاساً لأهميته القصوى، وكثرة وقوعه وابتلاء الناس به، فتثنية الآيات في موضوع معين إشارة إلهية لنا لنحتفي بالأمر.. إذ القرآن كلام الخالق الخبير سبحانه، فسائر ما فيه من تصريح أو تلميح أو كناية أو إشارة أو مفهوم أو نظير أو دلالة أولى أو ترتيب مأمورات أو ترتيب منهيات أو غيرها من أنماط “استفادة المعنى” و”إنتاج الدلالة”؛ فإنها تؤخذ بعين الاعتبار .. وهذا هو مقتضى التدبر والادّكار.
على أية حال .. الآيات التي أشار القرآن فيها إلى ظاهرة “الكذب على الله” كثيرة جداً، ومن ذلك قوله تعالى مبيّناً غاية وغرض من يكذب على الله ألا وهو “إضلال الناس” كما يقول تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام:144] وقال سبحانه مبيناً عاقبة من يكذب عليه: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر:60] وهذه الآيات معروفة معلومة مشهورة ولله الحمد؛ ولكن كثيراً من الناس يقصر فهمه عن معنى “الكذب على الله”.
مراتب الكذب على الله
والواقع أن الكذب على الله له مرتبتان:
- الكذب على الله في “الألفاظ”.
- والكذب على الله في “المعاني”.
وهذان النوعان أشار لهما الإمام ابن تيمية بتقسيم بديع حيث سماهما: تحريف التنزيل، وتحريف التأويل. (1الاقتضاء، 1/ 88)
فتحريف “التنزيل” يكون في الألفاظ، وتحريف “التأويل” يكون في المعاني.
فالكذب على الله في الألفاظ ـ كما في “الوضع” في الحديث ـ قد أقام علماء الإسلام لمقاومته علم “السنة النبوية ومصطلح الحديث”.
وأما الكذب على الله في “المعاني” ـ كما في التأويل للنصوص في غير مواضعها ـ فقد أقام علماء الإسلام لمقاومته علمَيْ “العقيدة والفقه”.
والكذب على الله في “الألفاظ” ينتشر كثيراً بين “جهلة المتصوفة” فينسبون إلى رسول الله ما لم يقُلْه، إما تعبداً لله باختراع الأحاديث، وإما شهوة نيْل الجاه بالتأثير في الناس، فيتفانون في تصنيع النصوص الغريبة المرعبة.
اختيار النخبة المتغربة لنوع الكذب..!
وأما الكذب على الله في “المعاني” فينتشر كثيراً بين النخب المثقفة، ومتفقهة التغريب، حيث يسطون على نصوص الوحي فيفسرونها دون استيعاب لبقية النصوص الشرعية الأخرى، ودون استيعاب لتفسير الصحابة وأئمة التابعين، ودون تفطن لمواضع الاجماع، بل بعضهم يفسر الآيات القرآنية بما يعارض تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لها..!
وهذا والله من أعجب المواضع، فلطالما رأيتهم يقولون عن آية من الآيات القرآنية أن معناها كذا، مع أن في الصحاح والمسانيد المشهورة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسّرها بخلاف ذلك..!
وقد أكّد القرآن كثيراً على ظاهرة “الكذب على الله في المعاني”. وأهم تلك الآيات القرآنية التي جرّمت الكذب على الله في المعاني من خلال الممارسات التأويلية آيتان: آية “تحريف الكلم”، وآية “الإلحاد في الآيات”.
وهما قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ وقد جاء عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال الإلحاد في الآيات «أن يوضع الكلام في غير موضعه».
ومن تأمل تاريخ “النبوات” علم أن أكثر ضلال المِلِّيين ليس من جهة جحد الوحي، وإنما من جهة تأويله وإخراج ألفاظ الشارع عن معانيها التي أرادها.
والتأويل وإحداث المعاني في هذه الأمة يتفاوت كثيراً بين عصر السلف وعصرنا، فتأويل أهل البدع في عصور السلف كان أكثره في “الأصول العقدية” كتأويل الصفات الإلهية، وتأويل العرش، وتأويل القدر، وتأويل البعث والمعاد، وتأويل الكرسي، وتأويل المعجزات وحقيقة النبوة، الخ، وإخراج هذه كلها عن حقائقها. أما الشرائع فقد كانوا معظمين لها، كما كان كثير من الفلاسفة المنتسبين للإسلام يقول أنه “لم يطرق العالم ناموس كناموس محمد” (ابن سينا) يعنون به شريعته العملية.
وتأويل وإحداث مبتدعة عصرنا أكثره في “التشريعات العملية”، حيث خفَت تأويل العقائد والغيبيات، وافتتنوا بالتأويلات والمحدَثات والبدع في قضايا المصلحة المرسلة، والمقاصد، والحدود الجنائية، والربا، والحجاب، والقوامة، والجهاد، والولاء والبراء، وأحكام الذميين، والحسبة على المنكَر، والموقف من المخالف، ومنزلة العلوم الدنيوية، ونحوها من قضايا التشريعات العملية.. لحمل نصوص الوحي في هذه المعاني كلها على أن توافق الحضارة الغربية المعاصرة، فاخترعوا معاني يهوونها ونسبوها للشريعة افتراءً على الله وكذباً عليه سبحانه عبر بوابة التأويل.
اختلاف قوة المواجهة
والفريقان كلاهما مبتدِعان محدِثان في دين الله، ومخترعان لمعاني غير شرعية، وهذه حقيقة البدعة، وإنما الفارق الوحيد بينهما:
أن المبتدعة في التراث كانو مبهورين بالحداثة اليونانية، فحاولو التلفيق بين غيبيات الوحي وغيبيات اليونان.
وأما مبتدعة عصرنا فهم مبهورون بالحداثة الغربية، فحاولوا التلفيق بين تشريعات الوحي وتشريعات الغرب.
ومن تأمل حميّة السلف وغيرتهم في عصرهم في مقاومة المحدَثات والمعاني المخترعة من أن تُنسب للشريعة، ورأى تخاذلنا إزاء المحدثات والبدع والمعاني المخترعة التي صارت تُنسب للشريعة، علم لماذا فضَّل الله هاتيك القرون، وعلم منزلة الوحي في تلك النفوس يرحمهم الله.
وفي إشارة مذهلة حين ذكر الله المحرمات في بعض آيات القرآن بدأ بها تصاعدياً فلما بلغ الشرك ـ وهو أعظمها ـ ذكر بعده الافتراء على الله، وهذه إشارة قرآنية لا تخفى في شدة تشنيع الافتراء على الله وهول خطورته كما قال تعالى في آيات عظيمة: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [ الأعراف:33].
وقد حذَّر نبي الله موسى من عاقبة “الافتراء على الله” تحذيراً مدوياً بأنه مستوجب للاستئصال والإهلاك كما قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾ [طـه: 61] والله سبحانه وتعالى غني عن نصرتنا لدينه، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.
خاتمة
إن واجب اللحظة الراهنة هو مواجهة هذا التأويل المحرِّف لدين الله تعالى من خلال تأويل أحكامه؛ لا لمعرفة مراد الله تعالى بل لموافقة أهواء الذين لا يعلمون، ولا يسلكون مسالك معرفة مراد الله تعالى من خلال معرفة قول رسول الله وتفسيره وعمله وعمل القرون المفضلة؛ بل ينظرون الى ما عليه الغربيون بين نصارى وملاحدة وإباحيين؛ كان ينبغي استنجاسهم والترفع على عقائدهم وأخلاقهم والتفريق بين هذا وبين العلوم الحديثة الواجب امتلاكها والأخذ بها وتطويرها ـ فنحن أوْلى بها ـ فإذا بالجاهلين عندنا يتركون العلوم الحديثة ويذهبون الى خراب القوم ومزابلهم..! فلله المشتكى.
………………………….
الهوامش:
- الاقتضاء، 1/ 88.
المصدر:
- الشيخ ابراهيم السكران