لا يكفي أن تقف في الصف بين المجاهدين، ولا أن تعمل أعمالا كبارا في الظاهر؛ حتى يلتئم الباطن معه فتُخلص لله توجهك ونظر قلبك وطلبك للآخرة.
مقدمة
أوضحنا من قبلُ وجوب توفر شروط التزكية للمجاهد قبل جهاده، وبيان أركانها؛ وأنها تتمثل في القيام بالحق، وأن يكون “لله” وحده وأن يكون “بالله” استعانة وتوكلا (للمزيد: من آداب المجاهد وتزكية النفس)
كما أوضحنا بيان شرط القيام بالحق، ووجوب العلم قبل العمل، والفقه في دين الله ليكون العبد المجاهد ستارا للقدرة يغير الله تعالى به. (للمزيد: القيام بالحق زاد المجاهد)
الركن الثاني: القيام لله عز وجل وحده
والمقصود بهذا الركن أن يكون القلب سليماً مخلصاً لله عز وجل متجرداً من أي شبهة يردّ بها “خبر” الله عز وجل أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وسالماً من أي شهوة يردّ بها “أمر” الله عز وجل وسالماً من أي إرادة تعارض الإخلاص لله عز وجل. وفي هذا يقول الإمام القيم رحمه الله تعالى:
“اعلم أن (التسليم) هو الخلاص من “شبهة” تعارض الخبر، أو “شهوة” تعارض الأمر، أو “إرادة” تعارض الإخلاص، أو “اعتراض” يعارض القدر والشرع.
وصاحب هذا التخلص هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، فإن “التسليم” ضد “المنازعة”. والمنازعة:
إما بـ “شبهة” فاسدة تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله به نفسه من صفاته وأفعاله، وما أخبر به عن اليوم الأخر، وغير ذلك؛ فالتسليم له ترك منازعته بشبهات المتكلمين الباطلة.
وإما بـ “شهوة” تعارض أمر الله عز وجل؛ فالتسليم للأمر: بالتخلص منها .
أو “إرادة” تعارض مراد الله من عبده، فتعارضه “إرادة” تتعلق بمراد العبد من الرب فالتسليم: بالتخلص منها.
أو “اعتراض” يعارض حِكمته في خلقه وأمره، بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع، وخلاف ما قضى وقدّر؛ فالتسليم: التخلص من هذه المنازعات كلها”. (1مدارج السالكين 2 /147، 148)
من مظاهر القلب السليم
أولاً: التسليم والانقياد لأحكام الله تعالى الدينية الشرعية
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع؛ ولهذا لم يحْكِ الله سبحانه عن أمة نبي صدّقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنةً بنبيها، بل انقادت، وسلّمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا، ولكن قولوا بِمَ أمر ربنا».
ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدّر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدَم الإسلام لا تثبت إلا على درجة “التسليم”، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه؛ فعلى قدْر تعظيم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه.
وتعظيم الأمر دليل على تعظـيم الآمِر، وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إلية والمبادرة به رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ثم فعْله لكونه مأمورا به، بحيث لا يتوقف الإنسان على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله وإلا عطّـلـه؛ فهذا من عدم عظمته في صدره، بل يسلّم لأمر الله وحكمته ممتثلاً ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر، أو فقهها العقل؛ كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله”. (2الصواعق المرسلة 4/1560 -1562)
ثانياً: التسليم لأحكام الله الكونية القدرية
فما كان فيها للعبد كسب واختيار فإنه يدافع الضار منها بفعل الأسباب المشروعة للمدافعة؛ فيدافع أقدار الله عز وجل بأقداره. كمدافعة قدَر الجوع والعطش بالأكل والشرب، وقدَر الحريق بالسعي لإطفائه؛ وهكذا.
وأما الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه فهذا حقه الاستسلام وترك المخاصمة مع شهود عزة الله عز وجل وحكمته وعدله في قضائه، وإحسان الظن به سبحانه بشهود لطفه ورحمته فيما يقدّره سبحانه على عباده المؤمنين وأنه سبحانه له أكمل الحمد وأتمُّه.
ومن ثمرات التسليم لأحكام الله القدرية الصبر والرضى والطمأنينة، وهذه من الأعمال القلبية التي لا غنى للمجاهد عنها؛ فهي زاده الذي يستعين به بعد الله عز وجل على مواجهة الشدائد والمحن؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة :153).
وقال الله عز وجل عن المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب:22).
ثالثاً: الإخلاص لله تعالى
وهذا الوصف من أعظم أوصاف القلب السليم حيث يَسلم من أي “إرادة” أو “غرض” يعارض الإخلاص لله عز وجل، وإن هذا العمل القلبي الشريف مما يجب على المجاهد ـ بخاصة ـ العناية به والاطمئنان إلى تحققه لان الأعمال لا تصح ولا تُقبل عند الله عز وجل إلا به. والجهاد في سبيل الله تعالى من أشرف العبادات وأحبها إلى الله عز وجل والمجاهد يقدّم فيه أغلى ما عنده؛ وهي نفسه التي بين جنبيه. فإن لم يكن قاصداً بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته خسر خسرانا مبينا.
وكما أن للإخلاص أثره في نَيْل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين؛ فإن له أثرا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح :18).
وإذا تمكّن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحَّد الهَمُّ في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمّة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله. ومقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة”. (3مجموع الفتاوى 15/170)
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده ﴿في سبيل الله﴾، وكذلك من يُقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيداً إلا إذا كان في سبيل الله قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة :154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئاً من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
خاتمة .. الشهداء الأحياء
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله:
“ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون ﴿في سبيل الله﴾ في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله. في سبيل هذا الحق الذي أنزله. في سبيل المنهج الذي شرعه. في سبيل هذا الدين الذي اختاره.. في هذا السبيل وحده لا في أي سبيل آخر ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار. وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبْقى في النفس شبهة أو خاطر.. غير الله.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجه مالك والشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي بذلك عرضاً من الدنيا؟ فقال: «لا أجر له». أخرجه أبو داود
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كَلْم يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلِم، لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل». (مسلم 1876)
فهؤلاء هم الشهداء. هؤلاء هم الذين يخرجون في سبيل الله فلا يُخرجهم إلا جهادٌ في سبيله، وإيمانٌ به، وتصديقٌ برسله.
ولقد كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لفتىً فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بنسبته في مجال الجهاد: عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه ـ وكان مولى من أهل فارس ـ قال: “شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أُحُداً، فضربت رجلاً من المشركـيـن، فقلت: خذها وأنـا الـغـلام الفارسي. فالتفت إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هلا قلت وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم».
فقد كره له صلى الله عليه وسلم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين. وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء”. (4في ظلال القرآن 1/144)
الهوامش:
- مدارج السالكين 2 /147، 148.
- الصواعق المرسلة 4/1560 -1562.
- مجموع الفتاوى 15/170.
- في ظلال القرآن 1/144.
اقرأ أيضا:
لماذا يتأخر النصر؟ ومن يستأهله؟