تتقلب بلادنا ومنطقتنا بأحداث متتابعة تحمل الكثير من الفتن، وتحتاج الى اتخاذ موقف وتحديد كل فرد لاتجاهه..
وقد وجدنا كثيرا ممن يخطيء في مواقفه وينخدع بزخارف ومكذوبات من الأقوال والشعارات، أو يقف عند التفاصيل وينخدع في الجزئيات، فيؤديه ذلك الى مواقف مختلة ومضطربة قد يؤيد فيها الباطل الصريح.. بينما توجد قواعد شرعية حاكمة تمنع المسلم من الضلال وتهديه للموقف الصائب بإذن الله تعالى..
القواعد الشرعية في محورين
الأول: خطورة الموقف من القضايا العامة على الإنسان في عقيدته وميزان حسناته وسيئاته وعائد ذلك على دينه وآخرته..
والثاني: قواعد يُعتصم بها للمساعدة على اتخاذ الموقف الصواب، وللعصمة من الضلال بإذن الله تعالى.
ليس هناك موقف محايد
والمقصود أن القضايا العامة حاليا تفرض نفسها على كل امريء، وهي قضايا ذات صلة بالعقيدة والدين ومصالح الأمة.
من أهم المجالات التي تتناولها القضايا العامة
1) قضية إقامة الشرائع أو تبديلها
وذلك يعني تحليل الحرام وتحريم الحلال وتبديل أحكام الله من قيم وأخلاق وعقوبات وحدود وزواجر.. وهذا أمر يهدد عقيدة المسلم؛ إذ من رضي بتبديل الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وخرج من دين الله تعالى.
2) قضية إلغاء الولاء الإسلامي والهوية الإسلامية الجامعة
وإحلال الهويات الوطنية والقومية المتعصبة مكانها إلغاءً لدور الإسلام في الانتماء.
3) قضية التبعية
للغرب المسيحي وللمعسكر الصهيوني الصليبي العالمي، وتبعا لهذا قبول الكيان الصهيوني كدولة، والتحالف معه والتطبيع..
4) قضية الاستبداد
والتجبر وانتهاك كرامة المسلمين ومنع حريتهم.
5) قضية الفساد العام
الذي يهدر المقدرات ويُفقر الأمة.
ويُنتج الأمران الأخيران معا (الاستبداد والفساد) حبوط مستقبل الأبناء والأجيال ومعاناة الملايين من الناس تحت وطأة الاحتياج في مقابل ترفٍ فاجر لطائفة فاسدة ومتغربة.
6) التغيير العميق للقيم والأخلاق
وتتبع وجود الإسلام وآثاره في المجتمع بالتغيير والتبديل الحرب الشديدة عليه، في تربية الأولاد من خلال مناهج التعليم التي توضع بمعرفة مراكز غربية ـ لا في العلوم الحديثة بل في القيم التغريبية ـ وموافقة الكنائس!
7) التغيير الاجتماعي العميق
للقيم والأخلاق وتبديل الممارسات الأخلاقية، من خلال الإعلام بوسائله المباشرة وغير المباشرة.
القضايا العامة تطاردك
فالنتيجة هي أن القضايا العامة تأتيك الى داخل بيتك ومستقبل أبنائك وعقول أسرتك وأولادك، وتُظلل قضايا أسرتك ومختلف علاقاتك .. فلا يمكن الانسحاب؛ بل المعاناة تطال الجميع كما أن الخير يطال الجميع إن حدث تغيير إيجابي..
كما أن موقفك من التبديل العام والتنكر للإسلام وقيمه يتصل بعقيدتك..
ومن هنا فلا بد من اتخاذ موقف عام.. ونوضح خطورة ذلك في المحور الأول:
المحور الأول: خطورة الموقف من القضايا العامة
ومن أهم القواعد في هذا..
قاعدة التسبب في الخير أو الشر
وهي تقتضي أن اختيار الإنسان لصاحب رايةٍ أو اتجاه؛ يُعدّ ذلك اختيارا لكل ما يفعله، وقصْدا له، سواء علم التفاصيل أوْ لم يعلمها، ولا يُشترط أن يفعلها بنفسه، ولا عذر له أنه لم يفعلها بنفسه..
والإنسان بحسب اختياره؛ فقد يختار مقيما للشرع مُصلحا، وقد يختار مبدلا للشرائع مفسدا.
وقد أوضح هذه القاعدة بأسلوبه الفريد الإمامُ الشاطبي؛ حيث يقول أن:
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبَب، قصد ذلك المسبَب أوْ لا؛ لأنه لما جُعل مُسبَبا عنه في مجرى العادات؛ عُدَّ كأنه فاعل له مباشرة ..
«فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسْبنا». وأدلته في الشرع كثيرة كقول الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ..﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32).
وفي الحديث: «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل»، وفيه: «من سن سنة حسنة؛ كان له أجرها وأجر من عمل بها»، وكذلك: «من سن سنة سيئة»…
وكذلك الزرع، والعالِم يبث العلم؛ فيكون له أجر كل من انتفع به».. «فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه…».(1)
نتيجة القاعدة السابقة في الموقف العام
ونتيجة ذلك أن من أيّد مقيما للشرع أو ساعيا الى ذلك فقد قصد لكل ما يُنتج من الخير مثابا على ذلك، ومن أيّد محارِبا للشرع مانعا من إقامته متتبعا لأهله قتلا وأسْرا وتضييقا وتشريدا، فقد قصد لكل الشرور التي يفعلها مأزورا على ذلك.
ومن أيد مُصلحا كان قاصدا لكل ما يفعله من الصلاح، ويثاب على ما فعله.. ومن أيد مفسدا كان قاصدا لكل ما يفعله من المفاسد ويؤزَر على ذلك.
أما من ظاهَر وأيد وأعان ودعا الناس الى ذلك كان تسببه أقوى.. وكان أوْلى بالأجر أو الوِزر.. لأنه مغرِق في الأمر عريق فيه.
وكذا من أيد مقاوما للباطل وللصهاينة وسيطرتهم كان له أجر ما وراء ذلك.. ومن أيَّد شخصا أو سلطة أو مؤسسات تنبطح للعدو الصهيوني، ولقوى الغرب عموما، في عداء للأمة ومصالحها وجغرافيتها، وتتآمر معها لتغيير المنطقة وديمغرافيتها ـ كما يخطط الآن ـ وترسيخ ضياع القدس وغيره.. فهذا يعتبر فاعلا لما فعله الأول بكل تفاصيل ما يفعل، وإن لم يكن هو الفاعل بنفسه.. فإنه لما تسبب برأيه وقوله في هذا صار فاعلا لكل ما نتج..
وإن استمرت الأجيال المتتالية تعاني من فساد أو ضياعِ مقدّرات أو تغييرٍ قيمي وخُلُقي وفسادٍ لنظام تعليمٍ معادٍ للإسلام يحذف آيات الله وسيرة نبيه الكريم، ومجهِلا لقيم الإسلام ومشوِها للتاريخ.. فلا يزال المتسِبب الأول الراضي بما كان، فاعلا لكل النواتج محسوبا عليه وزرها ولو لم يفعل بنفسه؛ إذ تسبب في إقامة وتمكين من يقوم بهذه المفاسد العظام.
أو محسوبا له أجرها لو أيد من كان مع الأمة وفي خندقها وهويتها ودينها.
قاعدة الرضا بالخير أو الشر، ولو لم يفعله
ويوضحها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» رواه أبو داود.
فإذا خوطب الإنسان بأن أحدا قد خان أو قتل أو سفك أو سجن أو سرق أو غير ذلك من الجرائم؛ فرضي ذلك منه وعظّمه وأيّده، لأي اعتبارات جانبية أو بغضا في فصيل بعينه أو حسدا لشخص أو طمعا في شهوة عابرة أو شهرة أو غيره.. فهذا يعتبر فاعلا، وإن باشر الفعلَ غيرُه؛ لأنه لم يكره ويبرأ مما أمر الله بكرهه والبراءة منه..
فالقاعدة الشرعية أنه لا بد أن يعرف قلب كل مسلم المعروفَ ويحبه، وأن ينكر قلبه المنكر ويكرهه ويبرأ منه ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ، وقال لوط عليه السلام ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾ يعني: الكارهين.
ومن بلغه صلاح إنسان إو إصلاحه وإقامته للدين فرضي ذلك كان كمن شارك فيه.
توهُّم المصلحة لا يُغني عن صاحبها
فمن يقف مع الباطل الصريح وتبديل الشرائع ومعاداة العقيدة والاستهزاء بها والطعن فيها وتشويه رموزها وتشويه من يدعو الى التزام الحياة بها متحججا بمصالح يحققها، في مقابل مفاسد كبيرة تتصل بالدين وبحرية أمة ومقدراتها ومستقبل أبنائها وقادم أجيالها.. فهي مصالح متوهَّمة ومظنونة، وإن رآها مصلحة فهي ملغاة وغير معتبرة شرعا..
فالمصالح المعتبرة شرعا هي «التي نص الشرع على اعتبارها وقبولها، أو حث على تحصيلها ورعايتها» وكما عرف الرازي المصالح المعتبَرة بأنها تلك:
“التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها”(2).
أما ما يناقض حفظ هذا الدين وإقامته فهي مصالح مظنونة ومهدرة شرعا، وقد ذكر تعالى عن المنافقين ادعاء مصلحة متوهَّمة بولاء الكافرين سرا؛ فنزل ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:11-12).
ولما توهموا مصلحة في التوسط والتذبذب بين شريعة الله وشريعة غيره أبطل الله تعالى هذا وقال ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ..﴾ (النساء:64-65) الآيات.
ثم نفى عنهم الإيمان حتى يحققوا المصلحة الكبرى وهي إقامة الدين والاحتكام لشريعة الله في كل شأن.
سقوط الحـيَل
قال الإمام أحمد:
نحن لا نرى الحيلة(3)
ومقصود الإمام أحمد أن الحيلة لا تغير الحكم على حقيقة الأشياء.
وتطبيق هذا على المواقف المعاصرة أن من كان كارها لإقامة الشريعة ولأحكامها، يخشى أن تحكم الحياة وفق منهج الله تعالى؛ فتَخفّى خلف كراهته لفصيل معين أو اسم معين، أو تحجج بانحرافات أو أخطاء لجماعة أو حزب أو أشخاص، فظاهَر وأيد العلمانيين..
فهذا لا يعتبر عذرا له؛ فهذا الاحتيال والتخفي خلف تلك الاحتجاجات لا يستر صاحبه.. فيجب التفريق بين المبدأ وبين التفاصيل مع الأشخاص أو الجماعات أو المؤسسات.
يَضعُف العذر كلما زادت المعرفة
فكلما قويت الشبهة عند البسطاء من الناس ومن عُميت عليهم الحقائق وخُدعوا كان الجُرم أقل، لاعتبارات عوارض الأهلية وعدم العلم بحقيقة الحال.. لأنهم تابعوا على ما يظنونه لا على الحقيقة، فقد يشكّل هذا عُذرا ما.
وأما من كان في مطبخ التآمر وقريبا من أهل الباطل ويقسَّم له دوره فيقوم به.. فذلك أعرق في الانغماس والمشاركة.
ومن كانت له ثقافة يعلم بها حقيقة الصراع وأنه صراع على رايةٍ وهوية، وشريعةٍ وتوجّه، وانتماءٍ وتنمية، وحريةٍ أو استبداد.. فالعذر في حقه منتفٍ إذ اختار عن بينة ووضوح.
إن الأزمات لن تدوم بإذن الله، و﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾، والله تعالى من صفته أنه ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾.. صدق الله العظيم.
المحور الثاني: قواعد عاصمة
والمقصود بها أنها قواعد يُعتصم بها للمساعدة على اتخاذ الموقف الصواب، وللعصمة من الضلال بإذن الله تعالى:
النظر الى القواعد الكبار واتجاه الراية المرفوعة
فالكثير ينظر بإغراق الى جزئيات وتفاصيل، تملأ اهتمامه وفراغه وجهده وعمره، وقد تزيغ ببصره..
فكثير من الطغاة يترك مساحة للوعاظ والعلماء للتنازع في جزئيات وفروع تُرضي البعض ويشعر معها أن الدين بخير، بينما الراية نفسها والاتجاه العام للأوضاع هو أوضاع تطبيع مع الصهاينة وإغراق في التبعية، وتبديل للأحكام، وتبديل لقيم المجتمع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرّفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون»(4)..
وعلى هذا قد يؤيد الكثير أوضاعا كهذه تخدعهم بجزئياتها وتهلكهم من خلال الاتجاه العام.
النظر الى المآلات
فمن نظر الى بدايات واقعه واتجاهات الأحداث.. فوجد التعدي على الثوابت العقدية والحرب على الدين، والتضييق على الدعاة، والتوسعة على رموز المجون، بل ورموز الإلحاد، وتمجيد الانحلال، وتتابع الفساد، وتعميق الاستبداد، والتمكين للعدو؛ علم ما تؤول إليه الأمور، وعرف أين يجب الوقوف.
اعتبار أحوال الاستضعاف
ففي زماننا ـ ولشدة ضعف الإسلام وأهله ـ قد يكون فيها المسلمون أنفسهم في مواقع سلطة يظنهم الرائي أصحاب نفوذ، بينما هم مستضعفون وإمكاناتهم محدودة، ولا بد من اعتبار هذا..
ومن اعترض عليهم أو على تصرفهم فلا يُعِن أعداءهم الصرحاء من الملاحدة والعلمانيين والإباحيين عليهم، بحجة عجزهم عن بعض الأمور.. فوجود هؤلاء ـ إن حدث ـ يتضمن مصالح للمسلمين ويمنع اجتثاث الدعاة ومنع الدعوة رأسا كما يفعل الطواغيت كلما تمكن منهم مولود جديد!.
الوطن لا يناقض الإسلام
وقد حشد الدجالون الكثيرَ من الناس بحجة حماية الأوطان! والخوف على تغيير هويتها! والخوف من خطورة الحروب الأهلية إن تمكن الإسلام وأهله أو ارتفعت رايته..! حتى قال بعض أتباع هذا الباطل أن «الوطن» قيمة كبيرة أكبر من «الدين» ومن كل شيء.
ومع الجهل العقدي من أصحاب هذا الكلام، ومع الدجل فيه.. فلا بد من معرفة أن الإسلام هو من يحمي الأوطان الإسلامية، إذ أوجب الدفاع عنها وحمايتها واسترداد ما يغتصبه العدو منها.. لكن هذا مشروط براية الإسلام وارتفاعها؛ إذ مكانة الوطن عند المسلم تابعة لمكانة العقيدة.
لا خير في التبعية
فكل أوضاع تتضمن التبعية للغرب الصليبي الصهيوني ولا تخرج من هذه التبعية ولا تسعى الى ذلك، بل ترسخ التبعية وتوقع الأمة في المزيد منها .. كل هذه الأوضاع لن تجني منها الأمة خيرا.
والتحديث المطلوب لن يتحقق بهذا، بل يمكن تحققه بمعاملة الند للند، مع الاعتزاز الذاتي بالهوية والحضارة الإسلامية..
وما يجنيه الناس من أوضاع التبعية هي مظاهر تغريبية في القيم والأخلاق، وكونها تتضمن تقدما هي رسالة خادعة وكاذبة.
الاعتبار بتجارب الأمم
إذ لم تتقدم أمة إلا من خلال اعتزازها بذاتها وحفاظها على تماسكها وقيمها، وتاريخها وهويتها.. ومن خلال رفضها الوقوع في التبعية الاقتصادية وما يستتبعه ذلك من تبعية سياسية، ثم تبعية ثقافية وقيمية، ثم تبعية عقدية، حتى الذوبان والانمحاء.
وما ثبت نجاحه من تجارب الأمم ـ المسلمة منها كماليزيا واندونيسيا، ولو نجاحا جزئيا في جانب العلوم والتحديث دون إقامة الدين والشريعة، وكذا الأمم غير المسلمة ـ لم يتم هذا إلا بقدر كبير من الذاتية والاستقلال والرجوع الى الذات.
الحذر الشديد من كذب الرموز الإعلامية
فهذه أصبحت أداة عالمية يستخدمها أرباب المال والسلطة والأجهزة المتنفذة، وهي كثيرا كثيرا ما تُظهر الحق باطلا وتجعل الباطل يظهر في صورة الحق، وتقلب الحُسن قُبحا والقبح حسنا في أعين الناس.
طلاءاتهم تواري قبحا عميقا، وبكاؤهم مفتعل، وصراخهم مصطنع، وتمجيدهم مكذوب.
والجري خلفهم ليس عذرا، خاصة إذا أنكر الإنسان ما تراه عينه من حقائق، وما يعلمه من دين الله تعالى..
“التثبت التثبت.. إن مما يسهم اليوم في مجانبة الحق والصواب في المواقف:
المسارعة في نقل وتداول الأخبار ونقل الأحداث دون توثيق وتثبت منها، والتعامل معها كأنها صدق وحق لا ريب فيه، ومن ثم تتخذ المواقف والأحكام المتسرعة على أساسها، ما ينجم عنه الأحكام والمواقف الجائرة التي قد يندم صاحبها عليها، لكن حين لا ينفع الندم؛ لأنها قد طارت كل مطير.
ويشتد خطر هذه المواقف وإثمها إذا كانت قد صدرت من متبوع في علم أو دعوة أو جهاد.
وتتأكد أهمية التثبت والتوثق بصورة أكبر في زماننا اليوم، الذي كثرت فيه وسائل النقل والتواصلات الاجتماعية السريعة، وتسارع الناس في نشر أي خبر والحكم عليه دون أدنى تثبت منه؛ حرصًا من الناشر على السبق والشهرة في نقل الأخبار، أو حرصًا على إلحاق الأذى والتهم بخصمه..
وفي هذا مخالفة لقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]“(5)
الحذر من الإرجاف وأهله
النفاق لم ينته فهو باق يشؤئب حين يجد مخرجا وأمانا وبيئة مواتية وظرفا مناسبا، ولا مناسبة كظرف النوازل والفتن؛ ولهذا فيجب
“الحذر من إرجاف المنافقين وتخذليهم أيام النوازل والفتن يشرئب النفاق وأهله ويظهرون بقرونهم: ﴿شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾[الأنعام من الآية:112]، ويسعون جاهدين لإثارة الوساوس والشبهات والشهوات في مجتمعات المسلمين، مما قد ينخدع بمكرهم فئام من الناس”(6)
ويُستعان هنا بالرفق والتؤدة:
“الرفق والحلم والأناة والاستخارة والاستشارة إن من أخطر الأمور على المسلم أيام الحوادث والنوازل، عجلته وتسرّعه فيها، وتركه الرفق والأناة، فكم من الذين تسرعوا وتورطوا في الفتن قد أقروا بندمهم على عجلتهم في أمر كان لهم فيه أناة؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة»(7).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»(8).
والحلم والتأني عواقبهما محمودة والخطأ فيهما أهون بكثير من الخطأ في التسرع والعجلة”(9)
وهنا أيضا ينبغي:
“الحذر من الهوى ودخول حظ النفس في تفسير الأحداث والمواقف منها؛ لأن الهوى وحظ النفس يقودان صاحبهما إلى التعصب والتحزب لهذه الطائفة أو تلك، أو لهذا الموقف أو ذاك؛ وهذا من ضعف التجرد لله عز وجل في طلب الحق.
وَمن هذه صفته فإنه يحرم في الغالب التوفيق والهداية والسداد”(10)
حسن الظن بالله
فما من حادثة إلا وهي مضمَّنة لمقتضى أسماء الله وصفاته وظهور آثارها؛ من الحكمة البالغة التي تظهر ولو عد حين، والرحمة والحلم، وهدايته لمن يشاء وإضلاله لمن يشاء، واصطفائه للشهداء، وتعظيم أجور المؤمنين، وغير ذلك مما تضمنه علمه تعالى.. فينبغي:
“حُسن الظن بالله عز وجل وأنه سبحانه حكيم لطيف عدل في قضائه وقدره، وأن رحمته في قضائه للمسلم قد سبقت غضبه.
ومن ذلك ما قدره سبحانه على الأمة من نوازل وحوادث، حيث إنها مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وله الحكمة البالغة في ذلك”(11)
العلم بالشرع
فالوحي أصل الهدى ومن حُرم منه كان خليقا بالحرمان من الهدى، وغالبا ما ينشأ الجهل من الإعراض والانصراف، ولهذا فهناك
“ضرورة العلم بالشرع والبصيرة في الدين والوعي بالواقع وأثر ذلك في معرفة الحق والسداد في المواقف، فبالعلم تزول الشبهات التي تغطي على الحق.
وغالب من لم يوفق للحق الجهلة من الناس، سواء كان هذا الجهل في الدين وأصوله وأحكامه، أو في الواقع وفهمه والوعي بسبيل المجرمين”(12)
من يهده الله فلا مضل له
والمقصود بهذا أن الدعاء والتضرع لله تعالى بالنجاة من الفتن وبرفع الضغوط عن المسلمين .. هو أمر أساس.
فالله تعالى ينير لمن شاء بصيرته ويريه الحق حقا كما هو، ويريه الباطل باطلا كما هو .. ويرزقه اتباع الحق ويحببه إليه ويرفع موانع اتباعه، ويرزقه اجتناب الباطل وكراهته ويعينه على رفض دواعيه..
وهنا نوصي بدعاء رسول الله إذا قام من الليل:
«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم»(13).
فجبريل موكل بحياة القلوب بالوحي، وميكائيل موكل بحياة الأبدان في الدنيا بالقطر، وإسرافيل موكل بحياة الخلود بعد الموت.. فالعبد يدعو ربه بربوبيته لهذه الملائكة الموكلة بالحيوات الثلاثة ليحيي قلبه بالهداية ومعرفة الحق وأن يُرزق اتباعه..
والتقوى سبب عظيم للهداية:
“تقوى الله عز وجل والعمل الصالح والإكثار من العبادات كلما كان العبد متقيًا لله عز وجل، قائمًا بالأوامر، تاركًا للنواهي؛ كلما كان أسعد بالموقف الحق عند النوازل، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾[الأنفال:29]“(14)
والله الهادي الى صراط مستقيم..
الهوامش
- الموافقات (1/335- 338) باختصار.
- المحصول، للرازي، ج2 صـ 220.
- أعلام الموقعين لابن القيم، ج3 صـ 138، وذكرها ابن تيمية عنه كثيرا، وكذا غيرهما من الأئمة.
- رواه أحمد والطبراني والحاكم.
- الوصايا العشر في التعامل مع الحوادث والنوازل، الشيخ عبد العزيز الناصر.
- المصدر السابق.
- (أبو داود؛ برقم: [4810]، وصححه الألباني في السلسلة؛ برقم: [1794]).
- صحيح مسلم؛ برقم: [2594].
- الوصايا العشر في التعامل مع الحوادث والنوازل، الشيخ عبد العزيز الناصر.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- رواه مسلم.
- الوصايا العشر في التعامل مع الحوادث والنوازل، الشيخ عبد العزيز الناصر.