لله تعالى وعْده بأخذ الظالمين بما يقدّره تعالى؛ إما بأيدي بعضهم وتضارب مصالحهم، وإما بيد المؤمنين والمظلومين. وللأقدار أوقاتُ مستقرٍ، وطرق ومسارب يتولى العزيز الحكيم جريانها وإنفاذ مفعولها..

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فهذه بعض العبر والآيات من حادثة قتل الصحفي “خاشقجي” في تركيا؛ أسوقها باختصار، مستمدا العون من الله.

هذه العبر من كتاب ربنا عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..

العبرة الأولى

من قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ [الروم: 4] وقوله سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:154].

فما من حدث يحدث في ملكوت السموات والأرض إلا بأمر الله عز وجل وإرادته وحكمته وعزّته وعلمه ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54] وإن لله عز وجل في هذه الحادثة لحكمةٌ بالغة ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام : 112].

فلما أن الله عز وجل قد أذن بوقوعها؛ فهذا مقتضى حكمته سبحانه وعلمه ورحمته وعزّته وقهره.

وما سيرد من العبر التالية إن هو إلا بعض ما ظهر لنا من الحِكم البالغة والألطاف الربانية التي هي مقتضى وآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلا وسننه التي لا تتبدل وما خفي علينا من الحِكم فيها أكثر.

العبرة الثانية

من قوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227] وقوله سبحانه: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه:111].

وما جرى ـ وسيجري ـ على الأوضاع الظالمة في بلاد الحرمين الذي بلغ الذروة في ظلم الناس في دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وآخرها هذه الجريمة..

أن ما يجري من فضائح وسقوط ورعب هو مصداق الآيتين الآنفتي الذكر، وهذه من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل؛ وهي أن الله عز وجل قد حكم بالخيبة والخذلان وعاقبة السوء على الظالمين مهما طال ليل ظلمهم وأن مآلهم في الدنيا والآخرة إلى سقوط وذلّة وشقاء إن لم يتوبوا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». (1صحيح البخاري 4686)

العبرة الثالثة

من قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة:41].

وصدق الله العظيم؛ فلقد رأينا هذا الوعيد الرباني في ما فعله الله عز وجل في طواغيت كثيرة عتت عن أمر ربها وتكبرت؛ فأنساهم الله أنفسهم وأغفلهم عن ما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم من فتنةٍ لهم وشر وشقاء ساقه الله إليهم على أيديهم وتصرفاتهم.

وحينئذ لم يملك لهم أحد ممن كانوا يعتمدون عليهم ويراهنون على حمايتهم لهم من الله شيئا، وهذا أيضا يصدقه قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [الرعد: 11] وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ [الحج: 18].

العبرة الرابعة

من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: 43].

إن المكر الذي زاوله الظالمون في بلادنا يفوق الوصف؛ وذلك بما أحدثوه من الفساد واستعداء الناس بمختلف طبقاتهم، والتضييق عليهم في أرزاقهم، ومعاداة أولياء الله من الدعاة والعلماء وتغييبهم وتعذيبهم في السجون، وإعلانهم بكل غطرسة وكِبر بأنهم سيدمرون الصحوة الإسلامية فورا دون تأخير، وبما يمارسونه من حصار للمسلمين حولهم وتأليب على حقوق شعوب المسلمين، والحيلولة دون حريتهم؛ ولسان حالهم يقول: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت : 15]..

فجاءهم أمر الله عز وجل في هذه الحادثة التي ردت مكرهم وكيدهم في نحورهم، وحوصروا في جلودهم، وأصبحوا في اختناق لا يدرون كيف يخرجون منه ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30] فسبحان الله العزيز الحكيم.

العبرة الخامسة

من قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: 16] وقوله سبحانه: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة : 166].

وما أصدق هذه الآيات في خذخ حادثة، وكيف أن المجرمين الكبار الذين مرّوا بها قد تنصّلوا منها وألصقوها بأعوانهم وأتباعهم المطبلين لهم الذين نفذوا الجريمة؛ فجعلوهم كبش فداء لجريمتهم .. هذا في الدنيا، ويوم القيامة تشتد حسرتهم حين يرون العذاب وتتقطع بهم الأسباب إن لم يتوبوا.

العبرة السادسة

من قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف:67] وقوله تعالى عن قول إبراهيم عليه السلام لقومه: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت : 25].

والعبرة من هذه الآية ما رأيناه من واقع “العلمانيين” و”الليبراليين” المنافقين في بلاد الحرمين، وكيف تنكروا لبعضهم وزملائهم لمّا خالفوهم في الرأي ولم يكونوا مطبلين مثلهم؛ فوقفوا موقف الجلاد ضد زميلهم الذي كانوا يجلّونه ويقدّرون كلامه.

وهذا الموقف منهم في الدنيا فكيف يكون ذلك يوم القيامة..؟

فإن كل محبة وخلة ليست لله تضمحل وتنقلب عداوة يوم القيامة.

العبرة السابعة

من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28].

وهذا حكم من الله عز وجل بأن الكذب يهدي إلى الفجور والضلال، وصاحبه مخذول محروم من الهداية وإصلاح الحال والعمل، وهذا من جنس قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس:81].

وكم سمعنا من الكذب والدجل والتناقض من الظالمين ومن عبيدهم المطبّلين لهم.

العبرة الثامنة

من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105-107].

وفي هذه الآية عبرة وعظة لكل من جادل وخاصم ودافع عن الظالمين محاولا تغطية جرائمهم وظلمهم أو مبرِرا لها.

وما أعظم هذه الموعظة الربانية وأنفعها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وإن أحوج الناس إلى هذه الموعظة بعض طلاب العلم الذين جعلوا أنفسهم “مناديل” يتمسح بها الطغاة المجرمون، ويوظفونهم في تبرير جرائمهم أو الخصومة عنهم؛ فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا.

وتذكروا قول الله عز وجل: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾ [هود : 113].

وتذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب». (2أخرجه البخاري ومسلم)

العبرة التاسعة

من قوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر :2].

وقد تمثلت هذه الآية في حكام بلاد الحرمين؛ حيث لم يكونوا يتوقعون أن تصل هذه الحادثة إلى ما وصلت في شرق الكرة الأرضية وغربها وجنوبها وشمالها، ولم يكونوا يتوقعون هذه الفضيحة المدوية على رؤوس الخلائق، ولكنه أمر الله عز وجل الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.. كل ذلك بأيديهم وخذلان الله لهم وتعميتهم عن مآلات أفعالهم.

وقل مثل هذا في الضربة الموجعة والقذيفة المدوية من قذائف الحق التي قذف بها عبدٌ من عباد الله تعالى نحسبه من أولياء الله تعالى ـ والله حسيبه ـ ألا وهو الشيخ المجاهد سفر الحوالي حيث لم يتوقع حكام “بلاد الحرمين” من هذا الرجل المريض المنعزل عن الناس أن يفاجئهم بهذا السيل الجارف من النصائح والفضائح التي لم يحسبوا حسابها، ولكنه أمر الله وتدبيره وحكمته ولطفه ورحمته وعزته وقهره.

العبرة العاشرة

من قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾ [المدثر: 31].

فتقدير الله لهذه الحادثة وما تلاها من مواقف دولية وسياسية وتنديد ومقاطعات؛ لو أنفق الناس أموالا طائلة لسنين طويلة ما تحقق لهم مثل ما حصل من تقدير الله عز وجل لهذا الحادث في غضون أسبوعين فقط، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ﴾.

وجنودُ الله أنواع وأجناس؛ منهم الملائكة، والإنس، والجن، والكافر، والمسلم، والحيوان؛ بل والجنود المعنوية مثل جند “الغباء” و”الحمق” الذي ران على قلوب المجرمين حتى أغفلهم وأنساهم عن عواقب أفعالهم.

وفضْح الله للظالمين لا يكون إلا بعد إعطائهم الفرصة تلو الأخرى ليتوبوا حتى استمرؤوا الظلم وأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا.

العبرة الحادية عشر

من قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51]. وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج : 38].

في هذه الحادثة وتداعياتها نصر للمظلومين في بلاد الحرمين؛ ولا سيما العلماء والمشايخ المسجونين ظلما وعدوانا، ومنهم من نحسبهم أولياء لله عز وجل، وقد يكون في تقدير الله عز وجل هذه الحادثة سقوط للطغاة المجرمين وأشياعهم، وانتصار ودفاع عن المظلومين المغيبين في غياهب السجون..

ومن يدري؛ لعلها دعوة من ولي من أولياء الله المظلومين سرَت بليلٍ فأصابتهم بسهم قاتِل. هذا وإن كنا لنوقن أن ثبات المصلحين في السجون وتضحياتهم هو أعظم انتصار للحق وأهله.

وفي الآيات المذكورة عبرة لكل مسلم يجاهد الفساد وأهلَه بأن لا ييأس من نصر الله عز وجل ورحمته وإهلاكه للظالمين؛ فالله عز وجل عليم حكيم لطيف خبير، وهو مع أوليائه يسمع ويرى .

العبرة الثانية عشر

من قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 1- 3].

ونخاطب بهذه الآية كفار الغرب والشرق وعملاءهم والمتشدقين بحقوق الإنسان..

لماذا هذا التطفيف في الميزان..؟

لماذا هذا الكيل بمكيالين..؟

إنه ينبغي أن تكونوا آخر من يدافع عن حقوق الإنسان.

أنسيت أمريكا والغرب والشرق معها ماذا فعلوا بالمسلمين في أفغانستان والعراق وسوريا من الجرائم التي يشيب لها الولدان ثم تأتي لتدافع عن حقوق الإنسان في جريمة مثل جريمة “جمال الخاشقجي”..؟

ثم أين أنتم من حقوق الإنسان التي تُنتهك على مدار الساعة في سجون الظلمة في بلاد الحرمين ومصر والعراق وسوريا وفي دولة اليهود وغيرها..؟

ما هذه الانتقائية في الدفاع عن المظلومين..؟

إن عليكم أن تخرسوا، وأن تبدأوا قبل ذلك بتنظيف سوءاتكم من الجرائم التي ارتكبتموها في حق الإنسانية ولا سيما المسلمين منهم.

إن الله عز وجل قد نبّأنا من أخباركم بقوله تعالى: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118]. والحمد لله رب العالمين.

خاتمة

يبقى عطاء هذا الكتاب العزيز لا ينفد، ويبقى نهرُه سلسالا وغزيرا، لا يخلَق عن كثرة الرد، ولا تنفد عجائبه؛ قد حدّثنا وأنبأنا عن هذه النماذج البشرية وهذه الأحداث القدرية، وما زال عطاؤه لا ينتهي ليتخذ منه المؤمنون زادا للروح، وزادا للرؤية والمعرفة وهم في طريق حملهم لهذا الدين وإيصاله للبشرية؛ فهل من معتبر ومدّكر..؟

………………………………………..

الهوامش:

  1. صحيح البخاري 4686.
  2. أخرجه البخاري ومسلم.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة