العلمانية هي الأساس الفلسفي لليبرالية، بل الجسر الذي تعبر عليه سائر الأفكار العقلانية حتى الماركسية، فكل مارکسي وليبرالي علماني بالضرورة ، فالليبرالية تطبيق من تطبيقات العلمانية، والعلمانية فلسفة تسبق كل نظام يفصل الدين وينحيه أو يلغيه بالكلية عن الحياة.
فهم الفكر بإرجاعه إلى أصله
لا يتحقق فهم العقائد والأفكار على الوجه التام المنضبط، وجدالها جدالا صحيا، إلا بمعرفة أصلها وأسها، فالله حينما أراد دعوة الإنسان وبیان حقيقته وتحوله أعاده إلى أصله ليعرف قيمته وحقيقته، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر:67] ، وقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النحل:70] وقال: (مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) [طه:55].
العلمانية هي الأساس الفلسفي لليبرالية، بل الجسر الذي تعبر عليه سائر الأفكار العقلانية حتى الماركسية، فكل مارکسي وليبرالي علماني بالضرورة ، فالليبرالية تطبيق من تطبيقات العلمانية، والعلمانية فلسفة تسبق كل نظام يفصل الدين وينحيه أو يلغيه بالكلية عن الحياة.
أقسام الناس في المجتمع النصراني
فالكنيسة منذ نشأتها وهي تقسم أفرادها إلى قسمين:
القسم الأول: إكليروس
وهم رجال الكهنوت أو رجال الدين، وهم الصلة بين العبد وربه، ورجل الكهنوت هو أب الاعتراف الذي يرتبط به الشخص النصراني مدى الحياة، فالأصل في كل مولود يخرج إلى الحياة عدم الاعتراف بنصرانيته حتى يتم تعميده من قبل القس، ولا يعترف بزواجه إلا بتشريعه، وإن أذنب اعترف له بكل خطيئة يعملها لتغفر له، ويمنحه صك الغفران لقبول التوبة، وعند الموت هو من يتولى مراسيمه من تكفين وغيره وبلا ذلك فميتته ليست على الدين.
وهذا كله لا وجود له في الإسلام، فلا يحول أحد بين العبد وربه في شيء ؛ وكل واسطة في العباده شرك وكفر كعبادة الأصنام والعظماء وحتى الأنبياء والملائكة المقربين (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5] ، وزواج المسلم يتم بشهادة اثنين من المسلمين عدول ولو من البقالين والجزارين، ولا يمضيه ولا يلغيه أحد إلا بحكم الله المحكوم في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتوبته من الذنب لا يعترف بها إلا بينه وبين ربه، والبوح بها من غير حاجة ذنب آخر كما في الحديث: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» (1) وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا يصلي منها حيث شاء، ويصح تغسيله وتكفينه والصلاة عليه من أي مسلم تصح الصلاة منه، وهذا غاية كاملة في تحرير العقول والأبدان من كل عبودية وذل إلا للخالق وحده.
القسم الثاني : العلمانيون
ما ليس من القسم الأول، وهم جمهور الناس وسوادهم، وهم (العلمانيون)، وهم كل فرد ليس من القسم الأول القليل، مهما كان وصفه وقيمته وحرفته، جاهل أو متعلم، فقير أو غني، وهم كل من لا يرتبط بالرب مباشرة.
الأسباب التي أوجبت تنحية النصرانية المحرفة وتحكيم العقل
نقل خلاف علمانية الغرب إلى ساحة الشرق
وهذا المفهوم الفلسفي لتركيب المجتمع الغربي منذ عصوره الأولى، أصبح أرضا نبتت منها الحياة الغربية المعاصرة، وبقوتها الإعلامية والعسكرية تسللت تلك الفلسفات إلى الحياة الشرقية، حتى لا يخلو مجتمع شرقي من تأثيراتها ، وأصبح من نظر في التركيبة الغربية من المنتسبين للإسلام، ينقل تلك المفاهيم ويرددها في صراعاته مع الإسلام بلا تمييز ومعرفة بحقيقة الإسلام.
إنزال الخلاف مع الكنيسة على الخلاف مع الإسلام
وكثير منهم جهلة بحقيقة الإسلام أو أصحاب هوى يريدون الانسلاخ من شرائع الإسلام، فيدعون أن خلافهم مع رجال الدين المسلمين ومفاهيمهم لا مع النص، وهذا المفهوم لا وجود له في الإسلام، فلا يوجد رجال دين حتى يقابلهم رجال دنيا، وإنما يوجد علماء الدين وفقهاؤه يبلغون الحق للناس كما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعمدون ولا يعترف لهم أحد بذنب، لا يترهبون ولا يتبتلون، يتزوجون ويبيعون ويشترون ويعملون كأعمال الناس وحرفهم، ولكنهم هم ورثة الأنبياء وحملة الشريعة، لا يشرعون من أنفسهم، يحولون دون كل فهم شاذ متسور على الحق بالشبهة والشهوة، فيقطعون عليه طريقه، ففي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». العالم يوجه غيره ويرشده، والجاهل يسأله عن حاجته، كحال الطبيب مع المريض؛ لأن عقل الإنسان وإن كان واسعا لاحتواء العلوم، فلا يمكن أن يجد صاحبه عمرا ووقتا يضع فيه كل ما يحتاجه، ولذا يقول الشافعي: ينبغي للرجل ألا يسكن بلدا إلا وفيها طبيب ينبئه عن أمر بدنه وعالم ينبئه عن أمر دينه.
ولأن الطب أمر متصل بالمادة وحياة الإنسان وبقائه يحرص عليه الإنسان، حتى لو كانت نظرياته خاطئة ووهمية فإنه ينفق عليها ماله ووقته، ولكن أمر الآخرة ارتباطه بالمادة غير ظاهر كظهور الطب في العقل اللاهي، فينساه الإنسان وربما يحاربه بكونه وهما، وينسى الإنسان أنه ينفق شطر ماله في وهم المادة.
إنزال الخلاف مع رجال الكهنوت على العلماء
وصراع علماء الإسلام مع المبطلين والغالين والجاهلين هو بمثابة دفاع عن الحق، وحماية للإسلام من عبث الأفكار وشوائب النفوس، وانفلات الهوى من قبل من يريد أن يضع تفسيرا للإسلام كما يريد، وصراعهم مع المنحرفين ليس كصراع رجال الكهنوت من أهل الكتاب مع عامة الناس، الذين يريدون وضع أنفسهم أبوابا لا يدخل أحد إلى الله إلا من خلالها، وما أكثر ما يحذر علماء الإسلام من كل وساطة متوهمة يستغلها أهل القبور والأضرحة والمزارات وكذا الخرافيون والكهنة والسحرة والمنجمون وقراء الكف والأبراج الفلكية الذين يعلقون آخرة الناس ومستقبلهم بالأوهام، فالعلماء الصادقون سلفا وخلفا يحررون العقول والأبدان من كل وهم يحول بينهم وبين خالقهم سبحانه، ورسالتهم بيان التوحيد الذي لأجله بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويقاتلون كل من انحرف في فهمه، ووضع حائلا بين الخالق والمخلوق، يجاهدون الله لا لأنفسهم، فهم أهل تحرير العقول والأبدان والأفكار أن تنحني أو تخضع أو تخاف من غير الله، حاكما أو محکوما، ويحفظون الحياة من عبث العقول ببيان حكم الله المنزل وحدوده، حتى لا يظهر الهوى طغيانه ونزواته تحت مسمى العدل والإنصاف والحرية والمساواة، والصورة التي يصنعها المتأثرون بالفكر الليبرالي لحال المناكفين لهم هي صورة منقولة من فكر الحياة الغربية للخلاف مع الدين وأهله عندهم، وتنزيل لخلافهم على أمة الدين المحفوظ والعقيدة التوحيدية ، ودافعهم إما الجهل أو الهوى أو هما معا، فليس من العقل أن تسقي الصحيح دواء لأن المريض شفي منه!
الليبرالية وجعل جميع الديانات في صف واحد
ولأن الليبرالية تسعى لأممية الفكر وانتشاره، فهي تتعامل مع سائر المؤثرات الغيبية على العقول بالتعامل الواحد، فهم يرون كل الأديان – ومنها الإسلام – من المتحكمات بتصرفات الناس، فالإسلام عندهم في ساحة واحدة مع البوذية واليهودية والنصرانية والهندوسية وغيرها، ولأن أول صراع لليبرالية مع الدين كان مع رجال الكهنوت فإنهم تعاملوا مع كل دين على ذات النحو.
إثبات القرآن للنصارى تحريف كتابهم وعدم صلاحيته قبل تركهم له بقرون
ورجال الكهنوت بين الله تحريفهم لكتبه لفظا ومعنى قبل أربعة عشر قرنا، محذرا مما هم عليه من كذب وافتراء عليه، وطلب منهم ترك ما هم فيه من دین مبدل، إلى الدين المحكم دين الإسلام، وبين أنهم في ظلام يجب أن يخرجوا منه فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16] وعاندوا وآثروا الظلام على النور عن علم و عمد؛ قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:71] ، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) [آل عمران:70].
اكتشاف النصارى تحريف كتبهم
أخذ أتباع الفكر الليبرالي من غير النصارى ينقلون مصطلحات الصراع مع الدين المبدل في ساحات الصراع الأخرى، وأخذوا يناكفون دین الإسلام دين الفطرة المحكم المحفوظ بمصطلحات قاصرة عن مناسبة الحال، فالنصرانية واليهودية بصورتها اليوم دین بشري مختلق، وليس من تشريعات السماء، والنصارى يعلمون بحقيقة الإسلام وبأن مواجهة النصرانية المحرفة بدين آخر مدعاة لمواجهة عظيمة، لا يتغلبون معها على التلبيس الحادث فيهم، لامتزاج العاطفة الدينية فيهم ضد غير النصرانية، ولارتباط الإسلام بأعراق وشعوب أخرى بينها وبينهم ثارات وشقاق، حيث التزم تبنيهم للإسلام بانتكاسة عرقية وشعوبية، فتصحيح الظلام والخطأ الذي يشعرون فيه باسم الإسلام يرونه شاقا وعسيرا، وكانوا قبل الإسلام قد جربوا من داخل الكنيسة وباسمها إزالة اللبس والشرك وما تم ظلما من تحريف الأحبار والرهبان حيث ربطوا المخلوقين بهم وسطاء لهم بينهم وبين الله في دينهم ودنياهم، لا يصلون إلى الله إلا بهم كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31] ، وكان هدفهم الدنيا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة:34] ففشلوا في تصحيح ظلام الكنيسة وتلبيسها من داخلها فلجئوا إلى التصحيح باسم العقل والفلسفة، فانفرط عقد العقل حيث لا ضابط له يحكمه من دين محكم صحيح.
دعوة أريوس
وخلاصة ذلك أنهم حاولوا تصحيح الطريق فظهر في أول القرن الرابع من میلاد المسيح أحد الأساقفة في الإسكندرية من مصر يدعى (آریوس) الذي دعا إلى بعض أنواع توحيد الله وإفراده بالعبادة، ونبذ كثير من الوسطاء بين العبد وربه، وتحرير العقول والأبدان من المعبودين إلا الله، وأن المسيح ليس الله، ولا ابن الله، وإنما كلمة الله وعبده، وهو بشر يصح منه الخطأ البشري كغيره، وقال: إن الأب هو الإله فقط، فالابن قبل ولادته لم يكن موجودا، وهذا العدم لا يليق بإله، والله قبل الابن لم يكن معه أحد ولم يكن والدا، ويدلل على ذلك بأدلة منها قول المسيح عيسى ابن مريم عن نفسه: (الحي وكنت ميتا)، يقول آريوس: إنه من غير الممكن أن يقول الله ذلك عن نفسه. وبذلك يكون قد أنكر الثالوث القدوس الأب والابن وروح القدس، وهذا ما دعا إليه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وقاتل وجاهد لأجله.
وقد قام بمواجهة آريوس: البابا ألكسندروس، وهو رئيس الكرسي السكندري، هومن بدأ بالتعبير عن مساواة الابن للأب في الجوهر، وهو من كبار اللاهوتيين في الكنيسة الإسكندرية التي كانت تتحد مع كنيسة روما، ومعه كثير من قساوسة الكنيسة، فردوا على آريوس وحاوروه دون جدوى، حيث كان يورد آيات وأدلة على قوله من الكتاب المقدس، ثم عقدت الكنيسة لأجله مجمعا محليا حرم فيه آريوس وتعاليمه، وجرد من رتبته الكهنوتية.
ثم هاجر آريوس من الإسكندرية إلى نيقوميدية؛ وهي بلاد واقعة شرق مصر على الساحل الشرقي من البحر المتوسط، وهناك بدأ في نشر معتقده، ثم رجع إلى مصر ثم أخرج منها بأمر البابا ألكسندروس مرة أخرى، وبلغ الأمر إلى الإمبراطور قسطنطين فأمر البابا ألكسندروس فقام بعقد مجمع للقساوسة للنظر في ذلك، فانعقد المجمع المسكوني بأمره خوفا من تبعات ذلك التصحيح الذي يصفونه بـ (بدعة آريوس) التي تخالف ما هم عليه، واجتمعوا عام 325 للميلاد في نيقية بلدة في بيثينية، وهي قرية اسنيك التركية، وعددهم 318 أسقفا، كما ذكر أحدهم وهو القديس أثناسيوس الذي شهد بنفسه المجمع، ويشكك بعض المؤرخين بنقولاته كونه خصما لآريوس، حيث رد على آریوس بفلسفات عقلية وتأويلات قاصرة في رسائل أربع.
ومع هذا التجريد أظهرت دعوة (آريوس) مؤيدين له، حتى أيده على دعوته نحو من ستة عشر أسقفا، فظهر الانقسام في الكنيسة، وظهر أتباعه في القسطنطينية ومصر وغيرهما، وقد أثر قسطنطين على ظهور تلك الدعوة وعلى صياغة قانونها الإيماني، وقيل: إنه من فرض عليهم نبذ دعوة آریوس(2).
وقد كان قسطنطين نصرانيا وثنيا يقر بعبادة الشمس، وإنما كان مؤثرا في حسم الأمر لأجل مملكته وخوفا على اضطراب يؤدي إلى زعزعتها.
ولأثر ذلك الاعتراض الطويل لم يتبق مع (آريوس) إلا اثنان من القساوسة، ثم تلاشت دعوته.
عقائد النصارى .. الكاثوليك .. الأرثوذكس
وقد استقر أمر الكنيسة في القرن الخامس الميلادي في المسيح عيسى ابن مريم على عقيدتين لا تخرجان عن الشرك والعبودية لغير الله والظلام والتلبيس :
الأولى: (عقيدة الكاثوليك) قالوا: له طبيعتان، فهو ابن الإله، وطبيعة بشرية، فحينما كان في الأرض يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق فهو بشر، وقبل ذلك وبعده فهو من الإله، وعلى هذا أغلب نصارى العالم وهم أتباع بابا روما.
الثانية: (عقيدة الأرثوذكس) قالوا: له طبيعة واحدة إلاهية، إله في السماء والأرض، وهي الكنيسة الشرقية في مصر وروسيا واليونان والبلقان وغيرها.
وأما العقيدة التي قاومت هاتين العقيدتين وهي الآريوسية فقد تلاشت.
ثم بقي التلبيس والظلام كما هو عليه حتى جاءت بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين والمبعوث للناس أجمعين فدعا إلى التوحيد، وحارب الوثنية وتلبيس الأحبار والرهبان بنسخ كل شيء سبق، وقاتل على ذلك، حتى دخل الخلق في الإسلام، وفتحت البلدان في زمنه وفي زمن خلفائه، ودخلت مصر مركز الكنيسة الشرقية في الإسلام، والبلاد التي انعقد فيها مجمع نيقية وهي بلاد الترك كاملها وما وراءها، وبقي المعاندون من أحبار ورهبان أهل الكتاب يسوقون الناس بالتلبيس والكذب، وأرضهم تنقص من أطرافها، ورقعة التوحيد تتسع، والنصرانية المحرفة تنحسر تدريجيا عن الشام ومصر وبلاد أفريقية وتركيا وأطراف أوربا، والوثنية تنحسر من الشرق بانبساط الإسلام عليها كفارس والعراق وما وراء النهر والهند، والتأثر بالإسلام يبدو على كثير من أتباع النصرانية ولكن هيبة الرؤساء والكبراء تمنعهم، مع أنه لم يسلم لهم الدين والدنيا من بني ملوكهم وأحبارهم ورهبانهم الذين لبسوا عليهم واستعبدوهم باسم الكنيسة والكتاب المقدس، وخلفاء الإسلام ومجاهدوه يكاتبونهم ويبلغونهم الحق، ويعرضون عليهم معنى الحرية التامة للعقول والأموال والأبدان، وكما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس لما سأله عما يريدون منهم: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
دعوة مارتن لوثر وجون كالفن .. (البروتستانت)
يقول جون ستيوارت مل في «أسس اللبرالية السياسية»: (المسيحية لم تعد تتقدم أدنى تقدم في توسيع نطاق انتشارها، فهي بعد ثمانية عشر قرنا لا تزال محصورة تقريبا في نطاق الأوربيين ونسلهم، وحتى مع المتدينين المتمسكين بحرفية الدين الغيورين على عقيدتهم، والذين يلحقون بها قدرا عظيما من المعاني أكثر مما يفعله الناس عادة = لوجدت أن الجانب النشط نسبيا عند هؤلاء الناس هو الذي تلقوه عن كالفن أو نوكس أو مصلح آخر قريب الشبه في أخلاقه منهما)(3).
ولهذا فالعارفون بالإسلام من الغربيين يدركون أن صراع العقل مع الإسلام يختلف عن الصراع مع الكنيسة، وكثيرا ما يصرحون بأن الإسلام أخطر شيء يواجه الفكر الغربي بليبراليته؛ لاتساعه ورحابته وإحكامه ووضوحه وحفظه من التدليس والتلبيس.
ولكن قد منعت الحمية والكبر كثيرا منهم من اتباع قيم الحق والنور والتوحيد والحرية التي جاء بها الإسلام، مع أن أكثر نداءات القرآن الموجهة لغير المسلمين هي لأهل الكتاب، فآمن خلق، وبقي خلق. وفي آخر القرن الخامس عشر الميلادي ظهر من قساوسة الكنيسة في ألمانيا مارتن لوثر (ت 1546) وتبعه متأثرا بقوله جون كالفن (ت 1564) وجون نوکس (ت: 1572) فانقلبوا على الكنيسة الكاثوليكية، وسموا بـ (البروتستانت) يعني المحتجين، وفي اللغة الإنجليزية تعني كلمة (بروتستانت) (يحتج)، وربما يسمون بـ (الإنجيليين) يعني أنهم يرجعون إلى الإنجيل مباشرة لا إلى فهم المحترفين والمبدلين له، ولهذا ليس لهم كاهن أكبر ولا بابا، مع بقائهم على العقيدة في المسيح كغيرهم.
الانسلاخ من الدين المحرف إلى العقل المجرد
تشدهم نزعة الفطرة المختلطة بشائبة التبديل إلى استنكار ما يرونه من انحراف عن الحق، فاحتجوا على الضلال الذي في الكنيسة وفساد البابوية والعبودية التي لا دليل عليها، ومنها منح صكوك الغفران لدخول الجنة وكان بابا روما لما احتاج إلى المال لتقوية أمر الكنيسة أصدر صكوك الغفران وحث على شرائها لدخول الجنة، بل بلغ الأمر أن ادعى أن الله يغفر لمن اشتراها ولو قدر أنه واقع العذراء بالحرام، وهذا غاية الفجور والكفر على الكفر، ومع ذا توافد الناس زرافات ووحدانا.
مع تبني الكنيسة الإصدار جباية للأموال، والتحريم والتحليل ومنع أي شخص يسأل عن الدليل والمستند من الكتاب المقدس، والإجابة أن هذا من الأسرار المقدسة فلا يقبل السؤال عنها. .
وقد كان لوثر قبل ذلك من غلاة الرهبان في الأديرة المنقطعين الذين يجوبون الطرقات توسلا وطلبا للتواضع وكسر تكبر النفس ولإصلاح الكنيسة، ثم تدرج في التحول وأنكر دجل الصكوك وكتب بيانا فيه وعلقه على الكنيسة، وأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، مع بيان جملة من الانحرافات العقدية الأخرى ، وقال هو ومن تبعه بكثير مما دعا إليه الإسلام ولكن بغير اسمه، كالنهي عن التبتل والرهبنة التي يمتنع بها الرهبان عن الزواج ومخالطة الناس، وأعلن لوثر زواجه من راهبة، ودعا إلى منع السرف والبذخ على التماثيل الكنسية، ولذا لا يوجد في الكنائس البروتستانتية تماثيل ولا صور لأن ذلك من السرف الباطل، ودعا إلى إقرار الطلاق إن احتاج الزوجان، وإقامة الحدود والتعزيرات إن استحقت على رجال الكنيسة والأمراء كغيرهم، وطالب بالمساواة بين طبقة رجال اللاهوت (الإكليروس) وبين عامة النصارى ، ودعا إلى أن يكون القس عاملا كغيره كادا مستثمرا وآكلا من قوت يده، وهذا ما أصله الإسلام، فلا رهبانية فيه، وعلماء الإسلام يعملون كما يعمل الناس.
وكتب مارتن لوثر في ذلك رسائل متعددة كثيرة، منها رسالة حول المجامع الدينية، ورسالة ضد مجددي التعميد، ورسالة بين فيها فساد البابا وعنوانها: بابوية روما أسسها الشيطان.
وصدر في حقه من البابا جرم كنسي، بتجريم فعله وبطلان معارضته وشذوذها، فأحرق بيان البابا أمام الناس، ودُعي إلى مجمع فيه نبلاء وأمراء وكهنة ألمانيا على اختلافهم، فقال: بينوا لي أن أقوالي وكتاباتي
تناقض الكتب المقدسة عندنا أو تناهض مبادئ العقل والضمير الصحيح .
ثم وضع ترجمة للكتاب المقدس من اليونانية إلى الألمانية حتى يتمكن الناس والعامة من قراءته فعُد أساسا في تاريخ الأدب والدين الألماني، ويقال من داخل الكنيسة الكاثوليكية: إن البروتستانت تأثروا بالإسلام للتوافق مع بعض أصوله، وأول ما ظهر البروتستانت في ألمانيا ثم إنكلترا وأمريكا.
صراع البروتستانت والاتفاق على عدم مناسبة الدين النصراني للحياة
إن ما دعا إليه لوثر وتبعه كالفن لم يكن على هدي سماوي صحيح، فهو يحاول تصحيح تحريف الإنجيل بالفطرة المبدلة الممتزجة بفكر صحيح، وبعقل معتمد على نصوص محرفة، والقرآن ينادي به من دونهم ومن خلفهم، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [آل عمران:64] عرفوا الحق الذي فيه فمنعهم من الاتباع الحمية التي منعت قريشا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد وقع الخلاف بين أتباع لوثر وكالفن ودار بينهم سجال سمي بـ “حرب الثلاثين عاما” (1648-1618) فكان صراعا عريضا بين اللوثريين والكلفانيين، ولم ينته الصراع إلا باجتماع مائة وواحد وعشرين ممثلا للبلاد الأوربية في بلدة وستفاليا في غرب ألمانيا عام 1648م، وأقروا أن لا حل لفهم الحق وإقرار حكم سياسي واجتماعي يؤخذ من الكتاب المقدس يجتمع عليه، لذا فلا بد من تنحية كل المفاهيم عن السياسة ومصالح المجتمعات، وبذلك أسسوا للعلمانية السياسية المُبعدة للكتاب الوضعي المسمى زورا دين الله وشريعته، ووصلوا إلى الحد الذي أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم قبل تسعة قرون بوحي الله المنزل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ) [المائدة:68] وحثهم على نبذ ما هم فيه من خرافة وتلبيس باسم الإله، ودعاهم إلى الحق، فخضعوا قسرا وأقروا بعد طول مراس وتجربة
بنصف الحقيقة أن ما هم عليه لا يصلح للدين ولا للدنيا، وأنكروا الشطر الآخر وهو نبوة محمد، علوا وكبرا، فرجعوا إلى شريعة العقل وتركوا شريعة الله؛ زيادة في العناد والطغيان، قال الله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [المائدة:68] ، وهل سينتظرون مثل تلك القرون ليقروا بأن العقل سيؤدي بهم إلى الانفلات غير المحدود، فأي حق سيصلون إليه من كتاب محرف لفظا ومعنى، نسخ الله أباطيله بكتاب محفوظ ونور يزيل ظلام الجهل والخلاف: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] ، فبين الله لهم الحق قبل أن يصلوا إليه بنحو تسعمائة عام، وناداهم بنداءات الرحمة بهم وخاطب عقولهم أن يتأملوا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16] وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:71] ، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) [آل عمران:70].
الاتفاق على إخراج الكتاب كله من الحياة العامة
واتفق أولئك المندوبون على إدخال الطوائف النصرانية الثلاثة – الكاثوليكية واللوثرية والكلفانية – تحت مظلة التسامح الديني، وكل يجب أن ينشغل بنفسه، فانفلتوا من نصوص كتب الأحبار المحرفة إلى العقل المنفلت الذي أوصلهم نهاية الأمر إلى جعل زواج الرجل من الرجل حقا مشروعا؛ عنادا وصدا عن اتباع الحق الذي جاء به القرآن، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) [المائدة:13] مع علم بالحق ودراية وعقل: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة:75]. وأصبحت بقايا الحق من الكتاب المحرف تنطق ببطلان ما هم عليه، يقرءونها في خلواتهم وعند أنفسهم ويستحيون من إخراجها لتضبط حياتهم، بعد أن أخرجوا الكتاب كله من الحياة العامة.
الهوامش
(1) رواه البخاري في (صحيحه) (رقم 6069).
(2) “تاريخ العقيدة” لأدولف هرتك ( 4/ 55).
(3) «أسس اللبرالية السياسية» (ص169- ط. مدبولي ترجمة: إمام عبد الفتاح وميشيل متياس).
المصدر
كتاب: ” العقلية الليبرالية..في رصف العقل..ووصف النقل” ص51-66، الشيخ عبد العزيز الطريفي.