قام الأنبياء بأداء مهمة عظيمة للنجاة والإحياء. وورثهم العلماء الربانيون، فقاموا بمهمة تاريخية في كل عصر؛ حجةً على الظالمين وهدايةً للخلق؛ فما صفاتهم.؟!

مقدمة

إن من يتأمل سنة الله في الأمم الماضية، ويقرأ تاريخ هذه الأمة المسلمة يصل إلى حقيقة واحدة؛ هي أنه كلما ضلت أمة من الأمم عن الحق، وابتعدت عن الهدى، وقادها أهلُ الزيغ والضلال، وتحكّم في شؤونها المفسدون؛ فإن من سنة الله أن يبعث فيها نبياً من الأنبياء يبين الحق للناس، ويكشف الباطل وأهله ويحمل راية الإصلاح والجهاد، صابراً على ما يصيبه من الأذى.

كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يدْعون أقوامهم إلى الحق ويطالبون رؤساءهم من الملأ بالإذعان والطاعة لأمر الله وحكمه، وتحكيم شرعه في كل شؤون الحياة، ويكشفون للناس الباطل القائم.

وخذ مثلاً لذلك قصة شعيب، عليه السلام، مع قومه حيث ذكر الله عنه بأنه دعا قومه إلى الالتزام بشرع الله، ونهاهم عن البغي والفساد، قال تعالى: ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباْ، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ [هود: 84-85]، فجمع عليه السلام في دعوته بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يقتصر على العبادة الفردية، بل دعاهم إلى إصلاح شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية، وهذا مَعْلم واضح من معالم دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدعوة المتكاملة التي تقتضي التغيير الشامل لجميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليكون الدين كله لله، فلم يكن أنبياء الله بمعزل عن واقع قومهم، ولم ينشغلوا بقضية الأفراد عن قضايا الملأ وعن مظالم المجتمع.

ولما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، أنزل عليه القرآن ليكون كتاب هداية ومنهج حياة آمنة مطمئنة، فمن يقرأ القرآن يجد أنه منهج شامل يوجه حياة الناس في جميع جوانب الحياة، فقد حمل، صلى الله عليه وسلم، أمانة الرسالة، ودعا الناس إلى كل خير وفضيلة، ونهى عن كل سوء ورذيلة..

أمر بإقامة العدل ونشره بين الناس، ودعا إلى إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحارب كل أنواع الظلم والعدوان؛ سواء أكان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات، ولم تقتصر توجيهات القرآن على الجوانب الشخصية لحياة الأفراد، بل شملت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وحيث إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، هو خاتم الأنبياء إذ لا نبي بعده، فقد حمَل المسؤولية بعده العلماء الصادقون كما ورد بذلك الأثر: «وإن العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالِم على العامة كفضل القمر على سائر الكواكب، والعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر». (1رواه أبو داود 4/ 57 ح 2641، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1079 ح 6297)

هذه المسؤولية التي تحمّلها علماء الأمة الربانيون طوال تاريخ الإسلام كانت بمثابة السور الآمِن الذي حمى الأمة من عواصف الانحلال والفساد. ولا شك أن الناس بدون العلماء جُهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن، من كل حدَب وصوب، وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب، ومن هنا كان العلماء من نعمة الله على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى.

والعلماء الذين أعنيهم هم العلماء الربانيون الجريئون في قول الحق المُحبون الخير للأمة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والمحاسِبون للولاة، الناصحون لهم بالحق، الذين اتصفوا بخُلق المرسلين، يقولون للظالمين: “ظلمتم”، وللمفسدين: “أفسدتم”؛ لا يخشون أحداً إلا الله سبحانه، ولا يسكتون عن حق واجب إذاعته، ولا يكتمون حُكماً شرعياً في قضية أو مشكلة سواء أكانت متعلقة بشؤون الأمة أم بعلاقات الدولة، إذ صلاح الأمة منوط بصلاح العلماء وقيامِهم بواجبهم.

صفات العلماء الربانيين

ولهذه النوعية العظيمة من العلماء صفات يتسمون بها، ويمكن إجمالها فيما يلي:

الإخلاص في القول والعمل

وهو أن يريد العالم بعلمه وجه الله والدار الآخرة، وفي الحديث: «لا تَعَلّموا العلم لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار». (2صححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1229 ح 7370، وعزاه للبيهقي وابن ماجة والحاكم في المستدرك). وإن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة رجل تعلم العلم وقرأ القرآن لغير الله، وفي الحديث الآخر: «من تعلم علماً مما يُبتغَى به وجه الله لا يتعلمه إلا لصيب به عرض الدنيا، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة». (3رواه أبو داود 4/ 71 ح 3664، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1060 ح 6159)

العمل بما علم ودعوة الناس إلى ذلك

فإنه لا فائدة من علم لا يتبعه العمل، ولهذا فإن العلماء العدول تجد علمهم في حركاتهم وسكناتهم وصمتهم وكلامهم ومواقفهم؛ يقول الإمام علي رضي الله عنه:

“يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالِم من عمل بما علم فوافق عملُه علمَه، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوزر تراقيَهم، يخالف عملهم علمَهم، وتخالف سريرتُهم علانيتَهم، يجلسون حِلقاً حِلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره وتركه. أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل”.

وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا تزول قدمُ ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، ومالِه من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيمَ علم». (4رواه الترمذي 4/ 612 ح 2416، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2 /1220 ح 7299)

خشية الله ومراقبته في القول والعمل

قال سفيان الثوري: «إنما يطلب الحديث ليُتقَى به الله». قال ابن عبد البر:

“وليعلم المفتي أنه موقِّع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك. وعن مالك رحمه الله أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وقال بعض أهل العلم لبعض المفتين: إذا سئلتَ عن مسألة فلا يكن همُّك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولاً”.

قول الحق وإظهاره

ومن أهم واجباتهم الرد على شبهات أهل الزيغ والضلال، وإنكار المنكرات المعلنة الظاهرة، وبيان خطرها، وإعلام الأمة بذلك، وعدم التدليس عليهم لئلا يتخذ الناس سكوت العلماء عن المنكر الظاهر والظلم والبغي حجة في اعتقاد أن ذلك حق لا سيما مسائل الاعتقاد: كالحكم بغير ما أنزل الله مثل القوانين الوضعية واستحلال ما حرم الله وتقنينه وإلزام الناس به، وموالاة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين، التي يترتب على السكوت عنها ضياع الفهم الصحيح لدين الله واندراسه، وانقلاب الحق باطلاً والباطل حقاً في نفوس عامة الناس، مما لا يجوز السكوت عليه..

هذا البيان للحق هو الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].

إن العلماء هم أقدر الناس على قول الحق وبيانه لا سيما ما يتعلق بأعمال الولاة والحكام، مما تكون مفسدته عامة على جميع الأمة.

التعاون والتشاور والتناصح

وذلك بتبادل الرأي والمناداة إلى اجتماع كلمة المسلمين على الحق حتى تتحقق المصالح العامة، ولا شك أن العلماء هم أوْلى الناس بجمع كلمة المسلمين، إذِ الأمة إنما تجتمع على علمائها فإذا اجتمعت كلمة العلماء، وتوحَّدت وحصل بينهم التعاون والتناصح، فإن ذلك أدْعَى إلى اجتماع الأمة وتعاونها وتضامنها في وجه عدوها.

مناصرة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها

إن مسؤولية العلماء ليست محصورة بقُطر أو ببلد؛ بل ينبغي أن يعيشوا ويعايشوا هموم الأمة، ويناصروا المسلمين، ويردّوا على أعدائهم ويرفعوا الظلم عنهم بما يستطيعون، لا يخشون في ذلك أحداً إلا الله سبحانه، وذلك أسوة بنبيهم محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن دعوتهم ورسالتهم لا ينبغي أن تحصرها الأقطار ولا الجنسيات؛ لا سيما في أيام الفتن وظهور البدع وانتشار الفساد والظلم والعدوان.

كشف سبيل المجرمين

وذلك بتحذير الأمة من خطر أصناف المجرمين، وطُرُق الظالمين وخداع المنافقين، وهذا هو جزء من بيان الحق وإظهاره، وكما قيل: «وبضدها تتبين الأشياء». والعلماء هم أعرف الناس بشُبَه المنافقين وخفاياهم، الذين يمثلهم اليوم بكل وضوح أصناف العلمانيين، ولهذا أمر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، بجهاد المنافقين، وكشف سبيلهم لتحذر الأمة من الوقوع في غوائلهم، ومن الانخداع بمظاهرهم الكاذبة.

الحذر من مجالسة أهل الأهواء

أولئك القوم الذين لا تزال آثار الهوى والحسد تظهر في أقوالهم وأعمالهم، فهم باب فتنة في كل زمان ومكان ومفتاح شر على الأمة في السابق واللاحق، وهل ما أصاب الإمام أحمد، وابن تيمية وغيرهما من علماء الأمة إلا بسبب هذا الصنف من الناس..؟

والأصل في علماء الأمة أن يتولوا الرد على أهل الأهواء، ويحذِّروا الناس من مخالطتهم؛ لأن الناس تبع لعلمائهم؛ فإذا رأوا علماءهم يلاطفون أهل الأهواء، فإنهم يقعون في شباكهم ويظنون أن ما عندهم هو الصواب..!!

خاتمة

إن علماء المسلمين هم الذين كانوا يقودون حملات الجهاد ويرفعون رايات الإصلاح، ويدافعون عن حقوق أمتهم، فلم ينزلوا في مساجدهم أو منازلهم أو يقتصروا على تدريس طلابهم، وإفتاء الناس في قضاياهم الخاصة من طلاق ووضوء وصلاة وبيع وشراء وغيرها ـ مع أهمية ذلك كله ـ بل كانوا يعْلمون أن مسؤوليتهم أكبر من ذلك بكثير، وأن واجبهم تجاه الأمة يتعدى هذه الأمور كلها ليصل إلى مناصرة المسلمين، ومناهضة الكافرين، وكشف ضلال الفاسقين وردّ الظالمين عن ظلمهم، وحماية شرع الله من التحريف أو التعديل ونبْذ التحاكم إلى القوانين الوضعية أو التلاعب بأوامر الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

إن دور العلماء محوري في كل زمن، وفي زماننا أكثر أهمية، إذ بهم تتعلق قلوب وتتشوف نفوس، وترمقهم العيون ليتأسوا بمواقفهم ويعرفوا أين منزلهم الذين نزلوا فينزلوا خلفهم؛ فمن اهتدى وهدى كان وريث النبوة، ومن ضل وأضل اشترى ثمنا قليلا وكان في جملة الهلكى؛ وما أكثرهم..! وما أصبرهم على النار..!!

اللهم وفِّق علماء المسلمين إلى الصواب، وثبتنا وإياهم على الحق، إنك على كل شيء قدير بالإجابة جدير.

………………………………

الهوامش:

  1. رواه أبو داود 4/ 57 ح 2641، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1079 ح 6297.
  2. صححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1229 ح 7370، وعزاه للبيهقي وابن ماجة والحاكم في المستدرك.
  3. رواه أبو داود 4/ 71 ح 3664، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/ 1060 ح 6159.
  4. رواه الترمذي 4/ 612 ح 2416، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2 /1220 ح 7299.

المصدر:

  • مجلة البيان، العدد 79، عبد اللطيف الوابل.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة