العقيدة الإسلامية نعمة وكنز، بها يلتئم شمل الإنسان. بها يحصل التمكين وبها يسعد في الدارين، وبها تقبل أعماله وتصح. ثمة أسباب للانحراف عنها والحرمان منها.
مقدمة
الانحراف عن العقيدة الصحيحة مَهلكةٌ وضياع؛ لأن العقيدة الصحيحة هي الدافع القوي إلى العمل النافع. والفرد بلا عقيدة صحيحة يكون فريسة للأوهام والشكوك التي ربما تتراكم عليه، فتحجب عنه الرؤية الصحيحة لدروب الحياة السعيدة؛ حتى تضيق عليه حياته، ثم يحاول التخلص من هذا الضيق بإنهاء حياته ولو بالانتحار، كما هو الواقع من كثير من الأفراد الذين فقدوا هداية العقيدة الصحيحة.
والمجتمع الذي لا تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد كل مقومات الحياة السعيدة؛ وإن كان يملك الكثير من مقومات الحياة المادية التي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار، كما هو مُشاهَد في المجتمعات الكافرة؛ لأن هذه المقومات المادية تحتاج إلى توجيه وترشيد؛ للاستفادة من خصائصها ومنافعها، ولا موجِّه لها سوى العقيدة الصحيحة.
أهمية العقيدة الصحيحة
يقول ابن القيم، رحمه الله:
“أما بعد فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون وأحرى ما يتسابق في حلبةِ سباقِه المتسابقون ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلاً وعلى طريق هذه السعادة دليلاً، وذلك “العلم النافع” و”العمل الصالح” اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما، فمن رُزِقَهما فقد فاز وغنم، ومن حُرِمَهما فالخير كله حُرم. وهما مورد انقسام العباد إلى “مرحوم” و”محروم”، وبهما يتميز البر من الفاجر، والتقي من الغوي، والظالم من المظلوم.
ولما كان العلم للعمل قريناً وشافعاً، وشرفُه لشرف معلومه تابعاً كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد”. (1إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411هـ، 1/ 5)
وقال ابن أبي العز الحنفي، رحمه الله:
“إنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين (الفقه الأكبر).
وحاجة عباد الله إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها، ومعبودها، وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه”. (2شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد الله بن المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة العاشرة، 1417هـ، 1/ 5)
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:
“إن علم التوحيد أشرف العلوم، وأجلّها قدراً، وأوجبها مطلباً؛ لأنه العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وحقوقه على عباده؛ ولأنه مفتاح الطريق إلى الله تعالى، وأساس شرائعه. ولذا أجمعت الرسل على الدعوة إليه.
ولما كان هذا شأن التوحيد؛ كان لزاماً على كل مسلم أن يعتني به تعلّماً، وتدبراً، واعتقاداً ليبني دينه على أساس سليم واطمئنان وتسليم، يسعد بثمراته، ونتائجه”. (3نبذة في العقيدة الإسلامية، محمد العثيمين، ص3)
خصائص الموحدين وسعادتهم
الموحِّدون لهم الأمن وهم مهتدون، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82)
والعبادة لا تُقبل ولا تَصح إلا بالتوحيد، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر:65)
والنجاة من الخلود في النار؛ عن جابر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ثنتان موجبتان» قال رجل: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة». (4رواه مسلم)
والسعادة بشفاعة النبي يوم القيامة؛ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: «قلتُ يا رسولَ اللَّهِ من أسعدُ النَّاسِ بشفاعتِك يومَ القيامةِ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألُني عن هذا الحديثِ أحدٌ أولى منكَ؛ لما رأيتُ من حرصِك على الحديثِ. أسعدُ النَّاسِ بشفاعتي يومَ القيامةِ من قال لا إلهَ إلَّا اللَّهُ خالصًا من نفسِهِ». (5عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك، صـ11-13)
والعقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي تحقِّق الأمن والاستقرار، والسعادة والسرور؛ كما قال تعالى :﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 112)
كما أن العقيدة الإسلامية وحدها هي التي تحقق العافية والرخاء، قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأعراف: 96)
والعقيدة الإسلامية هي السبب في حصول التمكين في الأرض، وقيام دولة الإسلام، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)
أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة
قال الشيخ الفوزان في كتاب عقيدة التوحيد عن أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة:
الجهل بالعقيدة الصحيحة
وذلك بسببِ الإعراض عن تعلُّمها وتعليمها، أو قِلة الاهتمام بها؛ فينشأ جيل لا يعرف تلك العقيدة، فيعتقد الحق باطلاً والباطل حقًّا؛ كما قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «إنما تُنقض عُرَى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهلية».
قلت: فكيف بأناسٍ لم يعرفوا عن الإسلام ولا عن الجاهلية شيئًا..؟!
وكما في حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: «كان الناس يسألون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافةَ أن يدركني».
التعصُّب لِما عليه الآباء والأجداد
والتمسك به وإن كان باطلاً، وترك ما خالفه وإن كان حقًّا؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)
التقليد الأعمى
وذلك بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير معرفة دليلها ومعرفة مدى صحتها؛ كما هو الواقع من الفرق المخالفة؛ من الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والصوفية.
الغلو في الأولياء والصالحين
ورفعهم فوق منزلتهم؛ بحيث يعتقد فيهم ما لا يقدر عليه إلا الله؛ من جلب النفع، ودفع الضر، واتخاذهم وسائط بين الله وبين خلقه في إجابة الدعاء. (6عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك، ص11-13)
الهوى
وهو رأس كل انحراف وفساد وقع فيه الإنسان وسيقع، من لدن آدم عليه السلام إلى وقت قيام الساعة، فبالهوى طُمِست حقائق وزُيفت عقائد، وغرق أقوام في بحور من التيه والغي والضلال.
والهوى زعيم كل عداءٍ واجه أنبياء الله ورسله في دعواتهم، وبه جوبهت دعوات الإصلاح وحركات التجديد في كل عصر ومصر.
والهوى هو سبب الشر والانحراف في كل نفس، وهو إما أن يكون بنزغ من الشيطان، وإما أن يكون من طبع النفس البشرية، ومآلهما واحد وهو الانحراف عن الجادة، والاختلال العقدي.
ركوب مركب العقل والتجديف بغير هدىً
فلجناية تقديم العقل على النص القرآن والسنة عظيم الأثر في إحداث موجات عاتية من الاختلال العقدي والفكري في المجتمع الإسلامي. ولا يعني هذا إهمال الإسلام كدين لمكانة العقل، وإنما المراد هو الاعتدال في الأمر، وتنحية العقل عما لا يدخل في إطاره، فلِلِعقل مجالات ليس له أن يتخطاها، وإلا سقط الإنسان في متاهات من الغي، بسبب سوء الفهم وإعمال العقل فيما لا عقل فيه، وإنما إنصات وتسليم، ومن ذلك أمور العقيدة التي لا سيبل لمعرفتها إلا سبيل الوحي. (7موقع طريق الإسلام، الخلل العقدي: أسبابه، ومآلاته)
خاتمة .. خطر علماء السوء
وهو من أعظم المخاطر وأشدها تأثيرا حين يثق الناس في رموز وعلماء يظنون فيهم أنهم سيقولون الحق ويتخذ الناس مواقفهم على أثر ذلك؛ فيضلونم ويهلكونهم كما أخبر تعالى ﴿لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ (الأنعام: 137)
وهم بين عالم سوء يشتري سلطة وبين الذين ينشرون الفكر الإرجائي الذي يُخرج العمل من الإيمان، ويعتبر الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بمجرد قوله “لا إله إلا الله”، ولو لم يعمل في الإسلام عملاً واحداً..! وإن قبِل شرعا غير شرع الله ووالى على الوطن والأرض، ويجادلون عن ولاة أمورهم ويبررون لهم تبديل الشرع وموالاة الكفار وتحليل الحرام وغير ذلك من الطوام والمكفرات وضياع الأمة.
فيجب الحذرمن أسباب الانحراف وتحذير الأمة منها. والله تعالى العاصم.
الهوامش:
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411هـ، 1/ 5.
- شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط – عبد الله بن المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة العاشرة، 1417هـ، 1/ 5.
- نبذة في العقيدة الإسلامية، محمد العثيمين، ص3.
- رواه مسلم.
- (عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك، ص11-13).
- موقع طريق الإسلام، الخلل العقدي: أسبابه، ومآلاته.