العقل هو آلة الإدراك والتمييز عند بني البشر، والقرآن والسنة كلاهما أشارا إلى منزلة العقل ومكانته، من خلال الحثّ على النظر والتدبُّر والتفكر وجعل العقل مناطاً للتكليف.
الميزان الإلهي للعقل … دوره وحدوده
أما میزان الله (للعقل)، ودوره، وحدوه، ومكانه الذي وضعه الله فيه: فهو وسط بين غرور العقلانيين بالعقل الذي جعلوه حاكما على كل شيء، ومقدما على النقل، وبين الخرافيين الذين أهدروه وضيعوا دوره وغايته ومهمته، وجعلوه نهبا للأوهام والخرافات والأساطير الكاذبة . وقد هدى الله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى الميزان المستقيم الذي يزنون به العقل، والذي هو الميزان العدل الوسط الخيار.
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في رده على المقدمين للعقل: (والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل، ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقول معقولا، وهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صریح، وليست كذلك، أو من جهلهم بالسمع؛ إما لنسبتهم إلى الرسول ما لم يرده بقوله ، وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول وبين ما تدرك استحالته بالعقول، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل.
أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول.
الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول.
الثالث: عدم فهم مراد المتكلم به.
الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله العقل وما لا يدركه)1(1) الصواعق المرسلة 2/ 459..
شهادة العقل بصحة الشريعة
إن العقل خلقه الله تعالى، وجعل من وظائفه أن يفهم عنه، ويعقل دينه وشرعه، فلا يجوز في حقه أن يرد شيئا من الوحي – الكتاب والسنة – بحجة أنه يخالف المعقول، بل الشريعة كلها بأخبارها وأحكامها ليس فيها ما يعلم بطلانه بالعقل، بل العقل يشهد بصحتها على الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال: فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة .
وأما التفصيل: فإن مسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل، بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا وما قصر العقل عن إدراکه من مسائلها، فهذا لعظمة الشريعة وتفوقها. ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها ؛ فالشريعة تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول ؛ وذلك كالعلوم الغيبية وما في حكمها ؛ فهذه إنما تعرف من جهة خبر الشارع، والحق أنه ليس في العقل ما يشهد بإحالة شيء من ذلك، وإنما فيه إثبات عجز العقل عن درك هذه المسائل على حقيقتها، وما ذلك إلا لكمال الشريعة، وتفوقها وعجز العقل وقصوره. أما أن يأتي الشرع بما يعلم العقل الصحيح بطلانه فهذا محال.
يقول الشاطبي – رحمه الله تعالى -: «إذا تعارض النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلی شرط أن يتقدم النقل، فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرع العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل»2(2) الموافقات 1/87..
العقل والرسالة…التلقي والفهم والاتباع
ويجلي هذا المنهج الرباني والميزان الإلهي للعقل سيد قطب – رحمه الله تعالی – فيقول: «إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول، ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنسان إلى تدبر دلائل الهدی وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح، ومنهج النظر الصحيح، وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة.
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض، بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها – أي: المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص – ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها بعد إدراك مدلولها – لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له – ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان.. فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح، ومتى فهم عقله ما المقصود بها، وما المراد منها.
إن هذه الرسالة تخاطب العقل .. بمعنى أنها توقظه، وتوجهه، وتقيم له منهج النظر الصحيح.. لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها. ومتى ثبت النص كان هو الحكم، وكان على العقل البشري أنه يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه.
إن دور العقل – في هذا الصدد – هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص، وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح. وعند هذا الحد ينتهي دوره .. إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحکم من هذا العقل؛ فهذا النص من عند الله والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله.
العقل ليس إلها يحكم بالصحة والبطلان
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير .. سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة … أو ممن يريدون إلغاء العقل، ونفي دوره في الإيمان والهدى .. والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات، وفي شؤون الحياة كلها. فإذا أدرك مقرراتها – أي إذا فهم ماذا يعني النص – لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ.. فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها، وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات وفق مفهوم نصوصها … مناقشتها ليقبلها أو يرفضها، ليحكم بصحتها أو خطئها .. وقد علم أنها جاءته من عند الله الذي لا يقص إلا الحق، ولا يأمر إلا بالخير.
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة – بعد أن يدرك المقصود بها – بمقررات له سابقة عليها ؛ كونها لنفسه من مقولاته «المنطقية» ! أو من ملاحظاته المحدودة، أو من تجاربه الناقصة .. إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية، ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي – قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة – ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين – متی صح عنده أنها من الله – إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص!
العقل ليس إلها ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله
فإذا قرر الله – سبحانه – حقيقة في أمر الكون، أو أمر الإنسان، أو أمر الخلائق الأخرى، أو إذا قرر أمرا في الفرائض، أو في النواهي .. فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه. متى أدرك المدلول المراد منه .. إذا قال الله سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) [الطلاق : 12]، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30]، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) [النور: 45]، (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) [الرحمن: 14، 15]… إلى آخر ما قاله – سبحانه – عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء … فالحق هو ما قال. وليس للعقل أن يقول – بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها – إنني لا أجد هذا في مقرراتي، أو في علمي، أو في تجاربي .. فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب، وفي ما قرره الله – سبحانه – لا يحتمل إلا الحق والصواب وإذا قال الله سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278، 279]، (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ) [الأحزاب: 33] (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) [النور: 31].. إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال – سبحانه – وليس للعقل أن يقول: ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله ، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس .. فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب، وتدفع إليه الشهوات والنزوات .. وما يقرره الله سبحانه لا يحتمل إلا الصحة والصلاح.
وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات، أو من منهج الحياة ونظامها، سواء في موقف العقل إزاءه – متى صح النص، وكان قطعي الدلالة ، ولم يوقت بوقت. فليس للعقل أن يقول: آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ، ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها ، فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته، فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان .. احترازا من الجرأة على الله، ورمي علمه بالنقص والقصور تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال!
العقل ودوره في الحياة البشرية
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية .. فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة – بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح – والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته، وطبيعة الكائنات فيه والأحياء، والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء، وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها – في حدود منهج الله – لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام)3(3) في ظلال القرآن 3/806،807 (باختصار)..
الهوامش
(1) الصواعق المرسلة 2/ 459.
(2) الموافقات 1/87.
(3) في ظلال القرآن 3/806،807 (باختصار).
اقرأ أيضا
مجال العقل البشري وحاجة البشر إلى الرسالة
ميزان العقل والعقلاء في الجاهلية
العدل والتوازن في الموقف من العقل