تضيع قوى المسلمين بين مندفع يهدر قوته في غير محلها متعجلا وغير مكافئ لعدوه، وبين معتذر عما شرع الله حتى يميت فريضة الجهاد.
مقدمة
الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه من المهم أن يُفَرَد بكلام خاص عن الوسط والطرفين المذمومين اللذين يكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الأدنى من القدرة والبيان الذي تستبين فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.
ويتحدث سيد قطب رحمه الله عن هذين الطرفين المذمومين فيقول:
“وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجدّيته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها، وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي التي تحدد هذه وتلك.
ورؤية هاتين الصفحتين ـ على هذا النحو ـ كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي ـ السمة الأساسية الأصيلة.
فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفًا وحماسة وشدة واندفاعًا فليس هذا هو الإسلام..!
وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام ـ كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! ـ فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوًا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين ـ وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عَقَبة، وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء.. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام”. (1«في ظلال القرآن» (2/ 734))
مواقف الناس من الجهاد في سبيل الله
وللبيان والتوضيح فالناس في موقفهم من الجهاد في سبيل الله تعالى طرفان ووسط:
الطرف الأول: من عجز وانتقد
وهو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هَدْيه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر. وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.
أما أن يُنظَر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل ؛ فهذا مخالف لهَدْيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كفِّ اليد يربّي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل ، ويعدّ النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لِذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل.
ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب.
وفي ذلك يقول سيد قطب، رحمه الله تعالى:
“إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المُنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين؛ إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قُدُمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السور الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية». (2«في ظلال القرآن» (3/ 1581))
الطرف الثاني من أهمل القدرة وحال الاستضعاف
وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم… إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيا من حيي عن بينة؛ ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملًا وعبادة وأخلاقًا ودعوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:
“فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمَّن يؤذي اللهَ ورسولَه من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(3«الصارم المسلول» (2/ 414)) . اهـ.
وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى ـ وهي كف اليد ـ ولم يُعِدَّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار.
الموقف الوسط المتوازن
وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهَدْيه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار.
ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل المجرمين وحذر منها، وربَّى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملًا للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلَّان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
تنبيه
ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع لا يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل الإيمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غُرِّر بهم ولُبِّس عليهم الأمر.
خاتمة
ليس في دين الله ما يتحرج عنه المسلم، وليس فيه ما توقفت أحكامه؛ بل فيه أحكام تسع أحوال المسلمين بين القدرة والعجز، وبين الاستضعاف والمكنة.
ومن لم يدرك تلك الفروق ويعلم الحكم الواجب تنزله على حاله؛ فربما أهدر قوته فيما لا ينفع المسلمين بل يعرضهم لمحنة وفتنة كبيرة، أو تماوت وأمات دين الله تعالى أمام عدو صائل.
………………………….
الهوامش:
- «في ظلال القرآن» (2/ 734).
- «في ظلال القرآن» (3/ 1581).
- «الصارم المسلول» (2/ 414).