العدل والتوازن سمة لهذا الدين، وكما هو مأخذ العقائد والعبادات والمعاملات؛ فكذلك في التعامل مع “القواعد الشرعية”، بين الإفراط والتفريط.
مقدمة
استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجدّ في حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلِق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة.
ومع ذلك فقد تجرأ على هذه القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والاجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان الأحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفرطوا، في تطبيقاتها وفرَّطوا، وحرَّموا وحلَّلوا، وحصل من جرَّاء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط وإضاعة ونشر للشر والفساد.
ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم إلى التوسط في تناوُل هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها بضوابط شرعية. (1انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب «فاستقم كما أمرت») تحميهم من التطرف نحو الغلو والإفراط أو التطرف نحو التفريط والإضاعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:
“الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس؛ مثل تَقابُلهم في بعض الأفعال يتخذها بعضهم دينًا واجبًا أو مستحبًّا أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا أو محرمًا أو منهيًا عنه في الجملة». (2«مجموع الفتاوى» (3/ 359))
ونضرب لذلك مثالا بقاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الأحكام في هذا الدين؛ ألا وهي: «قاعدة سد الذائع»؛ يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، عن هذه القاعدة:
“وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي.
والأمر نوعان:
أحدهما: مقصود لنفسه.
والثاني: وسيلة إلى المقصود.
والنهي نوعان:
أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه.
والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين». (3«إعلام الموقعين» (3/ 159))
وقد ذكر، رحمه الله تعالى، تسعة وتسعين وجهًا للدلالة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها. (انظر هذه الوجوه في «إعلام الموقعين». (43/ 137-159))
مواقف الناس من الأخذ بالقواعد الشرعية
وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو
وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هذه القاعدة، وتوسعوا فيها، حتى ضيقوا على الناس بتحريم بعض المباحات نظرًا إلى أنها (قد) تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن يحرّم بيع العنب على الناس لأن من بينهم مَن قد يصنع منه خمرًا أو يحرم بيع السلاح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة
وهم الذين فرَّطوا في اعتبار المآلات، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يئول إليه المباح وقصَروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباحًا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم؛ فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة، وعُطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلاء مثلًا لا يمانعون أن يباع العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمرًا، ولا يمانعون من بيع السلاح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أنه يستخدم في قتال المسلمين؛ لأنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلاح وهو الإباحة، ولم ينظروا إلى مآلات الفعل ومقاصد الفاعلين.
أمثلة معاصرة
ومن الأمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائلًا: إن الأصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة لا يتسع المقام إلى ذكرها.
وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به الإمامان الراحلان الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، رحمهما الله تعال، عندما سُئلا عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي نحن بصددها، وذكرا المفاسد الكثيرة التي يئول إليها هذا الأمر، وبناءً على مبدأ سد الذريعة حرَّما قيادة المرأة للسيارة.
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن
وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من الاعتبار كما فعل المفرِّطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسعًا كما فعل المفْرِطون، بل أوقعوها في مكانها اللائق بها، فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يئول إلى مفاسد محرمة حرّموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
ومتى ما غلب على الظن أن فعل ذلك لا يئول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر.
استعمال الصحابة للقاعدة
وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.
نقل القرطبي في «تفسيره» قال:
“روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: أَلِمَنْ قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا؛ قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك». (5«تفسير القرطبي» (5/ 333))
خاتمة
قد رأينا من عدم اعتبار القواعد الشرعية مظاهر محرمة؛ منها التبرج الفاحش، وانتشار الملابس الضيقة للنساء معتمدين على فتاوى مغلوطة، وافتراضات غير واقعية، وإهمال اعتبار المآلات. وكذا في الاختلاط المحرم، وغيره.
إن استعمال هذه القواعد بالعدل والتوازن يحقق مزية أنه يفتح للمجتع آفاق الخير ومداخله ووسائله، ويقطع عليه طرق الشر ومداخله ووسائله؛ فيرى الناس في شريعة ربهم تعالى تحقيق ما يبغونه من الحداثة والمعاصرة، وتحقيق العبودية لله تعالى، وتحقيق خيرية الأمة من خلال واقع مجتمعي منضبط بدين الله تعالى، والله الموفق.
……………………………..
هوامش:
- انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب «فاستقم كما أمرت» للمؤلف.
- «مجموع الفتاوى» (3/ 359).
- «إعلام الموقعين» (3/ 159).
- انظر هذه الوجوه في «إعلام الموقعين» (3/ 137-159).
- «تفسير القرطبي» (5/ 333).