لقد تفشت في بعض المجتمعات المسلمة ظاهرة ظلم العمال، وأكل حقوقهم، وإهدار كرامتهم، وإنها أمور لا تدل إلا على غياب الإيمان، وضياع الإسلام، وانحطاط الإنسانية، وهمجية السلوك في قلوب كثير من الناس.
ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد
وهذا النوع من الظلم أخف من الشرك في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها، ولكن الخطير فيه أن إثمه وعقوبته لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو استباحتهم منها؛ وإلا كان القصاص يوم القيامة ، بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم؛ وكفى بهذا حاجزا عن الظلم، وكفى به رادعا وواعظا للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد ويخرج من هذه الدنيا سالما لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دین أو نفس أو مال أو عرض. هذه الأمور التي لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها.
وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم، ويكون ذلك بأمرين:
– إما بمنعهم حقوقهم.
– أو بفعل ما يضر بهم.
وفي ضوء ما تقدم من أنواع الظلم الواقع على العباد يمكننا الآن التعرف على بعض صور الظلم المختلفة وبخاصة في زماننا اليوم، ومن هذه الصور ما يلي:
أولا: ظلم أرباب الأعمال لعمالهم
الإجارة جائزة بين المسلمين بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ولقد اقتضت حكمة أرحم الراحمين مشروعية الإجارة ؛ لما فيها من المصالح العظيمة للعباد، ولما في تعطيلها من الضرر والحرج على الناس. ولكن الشارع الحكيم عندما أباحها لم يتركها لأهواء البشر، بل جعل لها ضوابط وشروطا لا تصح إلا بها كما حذر مما يحصل فيها من الظلم والاعتداء على حقوق الناس. وأنواع الإجارة كثيرة، وسأقتصر هنا على استئجار الأجير في القيام بعمل محدد مقابل أجر محدد أو استئجاره بعمل يومي أو شهري مقابل أجر محدد، وما أكثر ما يظلم الأجراء والعمال في هذا الزمان الذي كثرت فيه الأعمال والمؤسسات والشركات والمصانع، وكثر فيه الوافدون من العمال من شتى الأقطار، كما كثرت فيه شكاوى العمال من ظلم أصحاب الأعمال وامتلأت مكاتب العمل والمحاكم الشرعية من هذه الشكاوى والمظالم.
ذكر بعض المظالم التي يتعرض لها العمال من أصحاب العمل
المماطلة في صرف الرواتب وبخسِ الحقوق
– أكل أجرة الأجير، كلها أو بعضها، أو المماطلة له بها وتأخيرها، وهذا من الظلم للأجير وذلك بأكل ماله بغير حق وبخيانته وعدم الوفاء له، بما تمت المعاقدة عليه .
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الظلم البين فقال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره»1(1) البخاري . ك البيوع (2227) . قال الحافظ في الفتح عند شرح الحديث: (قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. والخصم يطلق على الواحد وعلى الاثنين وعلى أكثر من ذلك.
«أعطى بي ثم غدر»: على حذف المفعول والتقدير: أعطى يمينه بي أي عاهد عهدا وحلف عليه بالله ثم نقضه.
«باع حرا فأكل ثمنه»: خص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقصود .
قال المهلب: وإنما كان إثمه شدیدا لأن المسلمين أكفاء في الحرية، فمن باع حرا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه .
«ورجل استأجر أجيرا»: هو في معنی من باع حرا وأكل ثمنه لأنه استوفی منفعته بغير عوض، وكأنه أكلها لأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده)2(2) فتح الباري:4/417 ..
وقد يقع الظلم على الأجير دون تعمد المستأجر أكل حق الأجير، وإنما بتأول أو خشية غلبة الأجير له. وهذا ينشأ في العادة من عدم الاتفاق على قدر الأجرة، أو على تحديد العمل المطلوب، وفي هذا مخالفة شرعية. وبتخلف شرط أو أكثر من شروط الإجارة تنشأ الخلافات وتختلف التقديرات وتكثر التظلمات. وهذا كله عقوبة لمن لم يلتزم بأحكام الله عز وجل التي شرعها لعباده في معاملاتهم والتي تقضي على كل الخلافات وتسد بابها، وصدق من قال: لو أن الناس التزموا أحكام الله عز وجل التي شرعها فيما بينهم والتزموا بشروطها وضوابطها لأغلقت المحاكم أبوابها.
وفي هذه المناسبة أنصح نفسي وإخواني بلزوم شرع الله عز وجل حتى لا نختلف ونتظالم ويتهم بعضنا بعضا بأكل الحقوق . ولو حصل واختلف أحدنا مع أخيه في تقدير الأجرة أو نوع العمل فلأن يخرج المسلم من هذه الدنيا مغلوبا مظلوما خير له من أن يخرج منها غالبا ظالما . وهذا كله مع المسلم العدل أما مع الكفار أو اللصوص والفساق المخادعين فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في حقه، وينخدع لهم.
عدم الالتزام بالعقد وتكليفهم بما لا يطاق
– عدم الوفاء ببند أو أكثر من بنود العقد الذي يبرم مع العامل؛ ففي ذلك غدر وخيانة وظلم من صاحب العمل لعماله، وقد قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] ويلحق بهذا ما يفعله بعض الجشعين من استقدام العامل من بلده وإبرام عقد صوري معه هنالك فإذا جاء للعمل لم يجد شيئا مما وعد به، بل لم يجد عملا البتة، وإنما يسرحه صاحب العمل مقابل مبلغ شهري أو سنوي يأخذه ظلما .
– تكليف الأجير بأعمال أخرى لم تكن داخلة في عقد الاتفاق دون زيادة الأجرة، أو تكليفه بساعات زائدة على ما اتفق معه عليها بنفس الأجرة الأولى؛ كل ذلك من الظلم له وأكل حقه بغير حق.
– تكليفه بما لا يطاق أو ما يغلب على الظن تضرره به وتعريضه للخطر، ولو كان ذلك برضى الأجير ووقوعه تحت ضغط العوز والحاجة.
– ويلحق بالصورة السابقة من يكلف الأجير بعمل المنكرات أو حراستها وبيعها وشرائها مستغلا في ذلك جهل الأجير وحاجته إلى المال أو ضعف الوازع الديني عنده، فيلحق بصاحب العمل إثم نفسه وإثم من كلفه بفعل المنكرات أو بيعها وحراستها من غير أن ينقص من إثم الأجير شيء.
ومن أمثلة ذلك: من يستخدم عماله في بيع المحرمات كالمجلات الخليعة والتلفاز وأدوات البث المباشر والمعازف وغيرها . فذلك يظلم نفسه بنشر الفساد وكسب المال الحرام، ويظلم عماله بإيقاعهم في هذا الإثم، وتعاونهم معه في إشاعة الفساد بين عباد الله عز وجل.
عدم دعوتهم وحضِّهم على الطاعة كالصلاة
– سکوت صاحب العمل عن المخالفات والمنكرات التي يراها على عماله فلا يأمرهم ولا ينهاهم مع قدرته على ذلك. وقد يكون بعضها يقدح في التوحيد وأصل الإيمان وبعضها في أركان الإسلام، کترك الصلاة مثلا. وقد يكون بعضها في الأخلاق والسلوك. والمقصود أن عدم المناصحة والدعوة للعمال من صاحب العمل يعد ظلما لهم وخيانة وبخاصة إذا كانت مخالفات العمال عن جهل وتضليل.
الاعتداء باللسان واليد
– الإساءة للأجير بسب أو لعن أو ضرب، والتعالي عليه واحتقاره والسخرية منه ؛ كل ذلك من الظلم الذي نهى الله عز وجل عنه بين المؤمنين بعامة .
وهذه الأخلاق الذميمة قد توجد من بعض أرباب العمل المتكبرين الذين يستغلون حاجة الأجير إليهم فيهينونه.
– الاستناد إلى بعض البنود الجائرة في أنظمة العمل والعمال والمضادة لشرع الله عز وجل في الإضرار بالعامل أو حرمانه من بعض حقوقه أو غير ذلك .
عدم المساواة بين العمال عند الخصومة
– عدم العدل مع العمال في التعامل دون سبب شرعي، أو الميل مع أحدهما دون الآخر عند الخصومات، حيث إن صاحب العمل أو من ينيبه يعد حاكما بين العمال؛ فيلزمه تحري العدل، وتجنب الهوى، ونصرة المظلوم، والحيلولة بين الظالم وما يريد، والسماع من الطرفين في الخصومة قبل الحكم بينهما، كما يلحق بذلك وجوب التثبت مما يشاع حول أحد العمال من تقصير أو مخالفة شرعية أو غيرها. كما يجب العدل في إيقاع الجزاء بأن يكون مكافئا لما وقع فيه العامل من مخالفة.
صور ظلم الخدم والخادمات والسائقين والمربيات
– ومما يلحق بالعمال والأجراء ما كثر في زماننا اليوم من الخدم والخادمات والسائقين والمربيات الذين امتلأت بهم بيوت كثير من المسلمين، وظهرت صور من الظلم على هؤلاء المستخدمين ذکر کثیر منها في الصور السابقة عند الحديث عن مظالم العمال، ونخصهم هنا بالصور التالية من صور الظلم لهم:
أ- استقدام الخادمات بدون محرم. ففي هذا ظلم للنفس وظلم لهن بإعانتهن على هذه المعصية والمخالفة الشرعية. كما أن في ذلك ظلما لهن بتعريضهن للفتن والفواحش. كيف لا وقد اجتمع فيهن الجهل والبعد عن الوطن وانعدام المحرم.
ب- ترك تعليمهم دين الله عز وجل وتركهم في جهلهم المطبق بعبادة ربهم، ومعرفة أحكام الشرع الواجبة عليهم، وقد يكون الخادم کافرا فلا تبذل الأسباب لهدايته إلى الإسلام وانقاذه من الكفر فيجمع هذا الظالم بين إثم استقدامه لعامل کافر وبين تركه على كفره دون دعوته إلى الإسلام.
ج- القسوة عليهم والغلظة معهم بسب أو لعن أو ضرب أو تضييق في المعيشة أو السکنی أو تكليفهم ما لا يطيقون أو ما يعرضهم للخطر في أنفسهم أو عقولهم أو أعراضهم. ومن الظلم لهم أيضا مجازاتهم على إساءتهم بأكثر مما وقعوا فيه من الإساءة .
فعن سويد بن مقرن رضي الله عنه قال: «لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها»3(3) رواه مسلم في الأيمان (1658)..
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلا قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن لي مملوكين؛ يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟
قال صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل».
قال : فتنحى الرجل، فجعل يبكي ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تقرأ كتاب الله»: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: 47].
فقال الرجل: والله يا سول الله، ما أجد لي ولهم شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم)4(4) الترمذي / ك التفسير من سورة الأنبياء 8/310 (3163) وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي (2531)..
وهذا الأثر وإن كان في المملوكين فهو يصدق على المستخدمين أيضا.
ثانيا: ظلم العمال لأرباب العمل
بعد أن تبين لنا في الصورة السابقة بعض مظاهر الظلم الذي يتعرض له العمال من أصحاب العمل فلا بد في المقابل أن نتعرف على بعض صور الظلم التي يتعرض لها أرباب العمل من عمالهم وأجرائهم؛ وذلك حتى لا يبرئ الأجير نفسه من الظلم بصفته هو الضعيف المحتاج، وبالتالي لا يتصور صدور الظلم عنه بزعمه.
ذكر بعض المظالم التي يتعرض لها أرباب العمل من العمال
عدم الوفاء بالعمل
– عدم وفاء العامل بما اتفق عليه في العقد من العمل سواء بعدم إكمال العمل المطلوب أو عدم إكمال الوقت المطلوب للعمل أو التحايل على صاحب العمل في ذلك بالكذب أو انتحال الأعذار الواهية بل الكاذبة أحيانا. وهذا يحصل في العادة حال غياب صاحب العمل عن عمله فيغفل العامل الظالم عن رقابة الله عز وجل له فتحصل منه هذه المظالم لنفسه ولغيره .
عدم اتقانه لعمله
– عدم إتقان العامل لعمله المتفق عليه سواء كان في الأصل مجيدا للعمل المسند إليه لكنه غش فيه أو تهاون ولم يعطه حقه أو كان في الأصل غير مجيد للعمل وتظاهر أنه عارف به ومتقن. كل ذلك من الظلم لصاحب العمل؛ وذلك بعدم الوفاء له بإنجاز ما أسند إليه مع أخذه للأجرة كاملة غير منقوصة.
تصرفه فيما لا يملك بغير إذن
– تصرف العامل في ممتلكات صاحب العمل بغير إذنه كالسيارات والأدوات وغلة المزارع والماشية وغيرها، سواء تصرف بها لنفسه أو لغيره؛ لأنه لا يملك ذلك إلا بإذن صاحبها، وتصرفه هذا ظلم منه لصاحب العمل.
السرقة والتحايل والخداع
– سرقة العامل من صاحب العمل شيئا مما ائتمنه عليه من نقود أو أعيان، وهذا يكثر من العمال الذين لا يخافون يوم الحساب . وسواء كانت السرقة بشكل مباشر أو بصورة تحايل وخداع لصاحب العمل، كل ذلك سواء، وكل ذلك ظلم وعدوان، على ما في ذلك من ظلم العامل لنفسه ومن يعول بأكل الحرام ونبات الجسم على السحت .
المشاركة مع صاحب العمل في المنكرات
– إعانة العامل لصاحب العمل على فعل المنكرات أو بيعها وشرائها أو حراستها. كل ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ، والعامل وصاحب العمل كلاهما ظالم بإعانة أحدهما للآخر على الإثم والعدوان ؛ وذلك كالعمل عند صاحب العمل في صناعة آلات اللهو والمعازف وصيانتها أو بيعها، وكالعمل في البنوك الربوية، والعمل في محلات التصوير وتحميض الأفلام لذوات الأرواح، ومثله بيع المجلات والقصص الخليعة التي تنشر المجون والفساد بين العباد. كل ذلك مما ينبغي للعامل تجنبه حتى لا يشترك مع صاحب العمل في ظلم الأمة في عقول أبنائها وأعراضهم وأموالهم . وحتى لا ينبت جسمه وأجسام من يعول على السحت والحرام.
السعي بالنميمة والغيبة
– السعي بالنميمة بين صاحب العمل والعاملين لديه أو بعض معارفه حتى يقع الشقاق بينهم، كما يلحق بذلك غيبة العامل لصاحب العمل عند بقية العمال وإشاعة التهم الكاذبة حتى تحدث الفوضى في محيط العمل ويحصل النفور بين صاحب العمل وعماله مما يكون له الأثر السيء على سير العمل وانضباطه.
كما يدخل في هذا أيضا قيام العامل بإفشاء أسرار صاحب العمل وما عنده من الأموال والأعمال مما لا يرضي صاحب العمل معرفة الناس لها، وهذا من خيانة الأمانة، وهو وما قبله يعد من ظلم العامل لصاحب العمل.
الهوامش
(1) البخاري . ك البيوع (2227) .
(2) فتح الباري:4/417 .
(3) رواه مسلم في الأيمان (1658).
(4) الترمذي / ك التفسير من سورة الأنبياء 8/310 (3163) وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي (2531).
اقرأ أيضا
صور من الظلم الواقع بين الأزواج