القضاء أمانة عظيمة ومهمة خطيرة، كيف لا وهو يحكم في دماء الناس وأبدانهم وأعراضهم وأموالهم وقد شرعه الله عز وجل لحفظ هذه الضروريات وحمايتها من العدوان والتلف والحرج، فيا سعد من أخذه بحقه فحكم بالعدل والحق، ويا خيبة من ضيع الأمانة وحكم بالهوى والجور ووضع نفسه خصما لعباد الله المظلومين بين يدي الله عز وجل يوم القيامة .
التحذير من طلب القضاء والهروب منه
ولأجل ما في القضاء من المسؤولية العظيمة خافه كثير من السلف واعتذروا من تحمله خشية أن يجوروا ولو في أمور يسيرة، ومن هذه الأحاديث التي أخافتهم قوله صلى الله عليه وسلم: «من جعل قاضيا، فقد ذبح بغیر سكين»1(1) الترمذي (1325)، والبغوي في شرح السنة (2496)، وقال هذا حديث حسن..
قال أبو سليمان الخطابي: (معنى هذا الكلام التحذير عن طلب القضاء. وقوله: بغیر سکین؛ يحتمل وجهين من التأويل أحدهما: أن الذبح إنما يكون في ظاهر العرف وغالب العادة بالسكين، فعدل به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنن العادة إلى غيرها، ليعلم أن الذي أراده بهذا القول إنما هو ما يخاف عليه من هلاك دينه، دون هلاك بدنه. والوجه الآخر: أن الذبح الوحي أي (السريع) الذي يقع به إراحة الذبيحة وخلاصها من طول الألم إنما يكون بالسكين، وإذا ذبح بغير السكين کان خنقا وتعذيبا، فضرب المثل بذلك ليكون أبلغ في الحذر من الوقوع فيه)2(2) شرح السنة 10/92 ، 93. ولا يفهم من هذا الحديث الامتناع مطلقا من القضاء، وإلا ضاعت حقوق الناس ودبت الفوضى بينهم. ولكن المقصود الحذر من الظلم فيه، والابتعاد عنه إذا كان هناك من يكفي للقيام بمصالح العباد ..
كتاب عمر لأبي موسى المتضمن شروط القضاء
والمتأمل في الوصية التالية من عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسي الأشعري رضي الله عنه عندما ولاه القضاء يرى في بنودها التحذير من كل ما يؤدي إلى الظلم؛ قال رضي الله عنه: (أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق، لا نفاذ له، آس الناس في مجلسك، وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة، فاضرب له أمدا ينتهي إليه؛ فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر، وأجلى للعماء.
ولا يمنعك قضاء قضيت في اليوم فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق؛ فإن الحق قديم، لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور، أو مجلودا في حد، أو ظنينا في ولاء أو قرابة؛ فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان .
ثم الفهم الفهم، فيما أدلي إليك مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق.
وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة – أو الخصوم – (شك أبو عبيد) فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا، فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله)3(3) أعلام الموقعين 1/ 85، 86 وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا کتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول ..
الناس في القضاء على ثلاثة أضرب
وينبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى أصناف القضاة وأقسامهم فيقول: (والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه فصار عالما عادلا ، صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم الجائر والجاهل الظالم، فهذان من أهل النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضی للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار»؛ فهذان القسمان ، كما قال: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» و : «من قال في القرآن برأيه فأخطأ فليتبوأ مقعده من النار» . وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط، فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام، ولما كان الحكام مأمورين بالعدل وبالعلم، وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»)4(4) شرح حدیث « يا عبادي إني حرمت الظلم » ص 52، 53..
صور الظلم في القضاء
وبعد هذه المقدمة العجلى عن القضاء وعظیم خطره، وعن القاضي وخطورة دوره ومسؤوليته، أسوق بعضا من صور الظلم التي نبه عليها علماء السلف في القديم والحديث حتى يحذرها من ابتلي بالحكم بين الناس، ويقلع عنها من كان متلبسا بها. ومن أخطر هذه الصور مايلي:
1- الحكم بغير ما أنزل الله
وتعد هذه الصورة أشد أنواع الظلم الذي قد يقع فيه بعض القضاة، وقد تصل بصاحبها إلى الظلم الأعظم والعياذ بالله تعالى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
والحاكم بغير ما أنزل الله تعالى على قسمين:
الأول: من يحكم بين الناس بلا علم بما أنزل الله عز وجل فيظلم نفسه، ويظلم المتحاكمين بين يديه بحكمه فيهما بغير ما أنزل الله ، وهذا ظلم لا شك فيه، وفاعله آثم ومتوعد بالنار كما جاء في الحديث السابق: «القضاة ثلاثة – وذكر منهم -: ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» وكونه يأثم بذلك لأنه حكم بلا علم فهلا تفقه قبل تصدره للقضاء؟ أو هلا سأل إذ جهل؟!
الثاني: أن يعلم حكم الله عز وجل فيتركه ويقضي بخلافه. وهذا القسم على ضربين أحدهما أخطر من الآخر:
الضرب الأول: من ترك الحكم بما أنزل الله عز وجل وحكم بغيره متعمدا في حالة معينة، مال فيها مع هواه؛ إما لقرابة أو رشوة أو منفعة يرجوها ولم يكن هذا الحكم نظاما عاما مسنونا، والحاكم فيها خاضع لشرع الله تعالى وملتزم بأحكام الله تعالی ظاهرا وباطنا، وعلامة ذلك شعوره بالإثم وأن ما فعله كان حراما. فمثل هذا ظالم لنفسه ظالم للعباد وهو على إثم عظيم. لكن عمله هذا كفر دون كفر لا يخرجه من الملة. وعلى هذا يفسر قول من قال من السلف في تفسير قوله تعالی: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة : 44].
الضرب الثاني: وهو من يحكم بغير ما أنزل الله تعالی متعمدا مفضلا له على حكم الله تعالى أو مساويا بينه وبين حكم الله عز وجل أو مجوزا لحكمه مع اعتقاده بأفضلية حكم الله تعالى فهذه كلها أعمال تخرج بصاحبها عن الملة وتوقعه في الظلم الأعظم المخرج من الملة .
وبقيت مسألة مهمة في هذا الضرب من الحكم تحتاج إلى تجلية وبيان؛ وذلك فيما يجري في المحاكم القانونية من الحكم بأحكام ملزمة مضادة لشرع الله عز وجل، وبيان الحكم فيمن قضى عالما مختارا بغیر حكم الله عز وجل في مسألة ما بحكم عام مسنون لكل أحد لا يجوز للقاض أن يقضي بخلافه. وهذا الحكم مضاد لشرع الله عز وجل وحكمه، مع اعتقاده بأن حكم الله أصلح وأفضل، لكن المنصب وحب الدنيا أغراه بهذا العمل، كما هو الحال عند أكثر قضاة المحاكم القانونية التي سنت فيها قوانين عامة تناقض أحكام الله تعالى يحكم بها على كل أحد كتلك المادة الديوثية التي توجد في قوانين بعض الدول المنتسبة إلى الإسلام والتي تقضي بأن الزنا لا يعد جريمة يعاقب عليها إلا إذا كان بغير رضى المرأة أما إذا كان برضاها فلا شيء فيه !! فما حكم من يحكم بمثل هذه الأنظمة الكفرية متعمدا؟.
القضاء تحت مظلة الأنظمة المبدلة لشرع الله
يجيب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى على هذه المسألة في تحقيقه لمسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى في تعليقه على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» فيقول: (نرى في بعض بلاد المسلمين قوانين ضربت عليها، نقلت عن أوربة الوثنية الملحدة، وهي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح بدهي، لا يخالف فيه إلا من يغالط نفسه، ويجهل دينه أو يعاديه من حيث لا يشعر وهي في كثير من أحكامها أيضا توافق التشريع الإسلامي، أو لا تنافيه على الأقل.
وإن العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز، حتى فيما وافق التشريع الإسلامي، لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة أو لمبادئها وقواعدها، وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه، فهو آثم مرتد بهذا، سواء أوضع حکما موافقا للإسلام أو مخالفا … والمثل: أنا نرى كثيرا من المسلمين الذين عهد إليهم بتنفيذ القوانين والقيام عليها، بالحكم بها ، أو بالشرح لها، أو بالدفاع فيها، نراهم مسلمين فيما يتبين لنا من أمرهم، يصلون ويحرصون على الصلاة، ويصومون ويحرصون علي الصوم، ويؤدون الزكاة ويجودون بالصدقات راضية نفوسهم مطمئنين، ويحجون كأحسن ما يحب الرجل المسلم، بل نرى بعضهم یکاد يحج هو وأهله في كل عام، ولن تستطيع أن تجد عليه مغمزا في دينهم؛ خمر أو رقص أو فجور . وهم فيما يفعلون مسلمين مطمئنين إلى الإسلام، راضين معتقدين عن معرفة ويقين. لكنهم إذا مارسوا صناعتهم في القضاء أو التشريع أو الدفاع، لبستهم هذه القوانين، وجرت منهم كالشيطان مجرى الدم، فيتعصبون لها أشد العصبية، ويحرصون على تطبيق قواعدها والدفاع عنها، كأشد ما يحرص الرجل العاقل المؤمن الموقن بشيء يرى أنه هو الصواب ولا صواب غیره، وینسون إذ ذاك كل شيء يتعلق بالإسلام في هذا التشريع، إلا ما يخدع به بعضهم أنفسهم أن الفقه الإسلامي يصلح أن يكون مصدرا من مصادر التشريع! فيما لم يرد فيه نص في قوانينهم، ويحرصون كل الحرص على أن يكون تشريعهم، تبعا لما صدر إليهم من أمر أوربة في معاهدة منترو، مطابقا لمبادئ التشريع الحديث، وكما قلت مرارا في مواضع من كتبي وكتاباتي: وتبا لمبادئ التشريع الحديث.
فهؤلاء الثلاثة الأنواع: المتشرع والمدافع والحاكم، يجتمعون في بعض هذا المعنى ويفترقون، والمآل واحد. أما المتشرع فإنه يضع هذه القوانين وهو يعتقد صحتها وصحة ما يعمل، فهذا أمره بين، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وأما المدافع فإنه يدافع بالحق والباطل، فإذا ما دافع بالباطل المخالف للإسلام معتقدا صحته، فهو كزميله المتشرع، وإن كان غير ذلك كان منافقا خالصا، مهما يعتذر بأنه يؤدي واجب الدفاع. وأما الحاكم فهو موضوع البحث وموضع المثل. فقد يكون له في نفسه عذر حين يحكم لما يوافق الإسلام من هذه القوانين، وإن كان التحقيق الدقيق لا يجعل لهذا العذر قيمة. أما حين يحكم بما ينافي الإسلام، مما نص عليه في الكتاب والسنة، ومما تدل عليه الدلائل منهما، فإنه، على اليقين، ممن يدخل في هذا الحديث: قد أمر بمعصية، القوانين التي يرى أن عليه واجبا أن يطيعها أمرته بمعصية، بل بما هو أشد من المعصية، أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فلا سمع ولا طاعة، فإن سمع وأطاع كان عليه من الوزر ما كان على آمره الذي وضع هذه القوانين، وكان كمثله سواء …)5(5) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر 6/303-305 باختصار..
حكم تحكيم القوانين الوضعية
كما يزيد هذه المسألة بيانا سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته القيمة (تحكيم القوانين) وهو يعدد أنواع الحكم بغير ما أنزل الله المخرج من الملة فيقول: (الخامس: وهو أعظمها، وأشملها، وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادا، وإمدادا، وإرصاردا، وتأصيلا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستمدات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمریکی، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك . فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمد رسول الله بعد هذه المناقضة)6(6) فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم 12/290-289..
2- أخذ الرشوة على القضاء
وذلك سواء قضى القاضي بعدل أو بظلم، مع أن القضاء بظلم أحد الخصمين بسبب رشوته أشد لأنه جمع بين إثم الرشوة وإثم الظلم، والظلم إثمه معروف، أما الرشوة فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعنة الله على الراشي والمرتشي»7(7) الترمذي ، ك الأحكام (1336) والبغوي في شرح السنة 10/88 وقال عنه أنه حديث حسن.، قال الإمام البغوي: (الرشوة: ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل، فيعطي الراشي لينال باطلا، أو ليمنع حقا يلزمه ويأخذ الآخذ على أداء حق يلزمه، فلا يؤديه إلا برشوة [يأخذها]8(8) في الأصل (يأخذ)، والسياق يقتضي ما أثبتناه . أو على باطل يجب عليه ترکه ولا يتركه إلا بها، فأما إذا أعطى المعطي ليتوصل به إلى حق، أو يدفع عن نفسه ظلما، فلا بأس)9(9) شرح السنة للبغوي 10/88..
ومما يلحق بالرشوة الهدايا التي يأخذها القاضي من أحد المتخاصمين؛ فعن عبد الله بن بريده عن أبيه رضي الله عنه قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»10(10) رواه أبو داود (2943) وصححه محققا شرح السنة 10/89..
والرشوة قد تكون مالا أو منصبا أو أي منفعة عاجلة من منافع الدنيا الفانية. وقد استدل بعض المفسرين على تحريم الرشوة بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾ [البقرة:188]۔ قال الإمام البغوي في شرح السنة: (أي لا تعطوها الحكام على سبيل الرشوة ليغيروا الحكم لكم… وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ﴾ [الأعراف: 169]، أي يرتشون في الأحكام)11(11) شرح السنة 10/87 .، من أجل ذلك جاء في ذكر أدب القضاة التحذير من أمور دقيقة قد لا يكون مقصودها الرشوة، ولكن ينبغي للقاضي الامتناع عنها سدا للذريعة؛ مثل التساهل في قبول الولائم ونحوها من الناس بعامة ومن المتخاصمين بصفة خاصة.
3- الميل مع أحد الخصمين على الآخر
وذلك إما لقرابته أو وجاهته أو غناه أو سلطانه، سواء كان الميل في الحكم أو بالاستئناس لأحدهما دون الآخر أو إيثاره بشيء دون الآخر سواء في المجلس أو الكلام أو غير ذلك، كل ذلك يعد ظلما . كيف لا وقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالقسط والعدل حتى مع الأعداء والكفار ، فقال الله عز وجل: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ [المائدة: 8] وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]. وفي هذه الآية الكريمة تصریح بوجوب العدل، ولو كان الحكم على النفس أو الوالدين والأقربين، وأن لا يميل الحكم مع أحد على حساب الحق، ولو كان الذي عليه الحق غنيا فيميل معه لغناه أو فقيرا فيميل معه شفقة عليه ورحمة.
وقد بلغت عظمة هذه الشريعة إلى أن تعدل مع الأعداء الألداء من الكفار ونحوهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
وفيما يلي رسالة للشيخ محمد بن إبراهيم إلى أحد القضاة في عصره يحثه على العدل مع الكفار النصارى، وأن لا يميل مع المسلم على حساب الحق. قال فيها: (ولا تخفاكم النصوص الشرعية الطافحة بوجوب العدالة بين المتخاصمين حتى في اللسان والإشارة، وعدم رفع الصوت على أحدهما دون الآخر، ومن المعلوم أيضا أن عدالة القضاء يتساوى فيها المسلم والكافر في حدود الواجب الشرعي، وما نص عليه العلماء رحمهم الله في باب (أدب القاضي) أعانكم الله، وسدد خطاكم، والسلام)12(12) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/348 ..
4- التسرع في الحكم قبل تکامل البينات والشهود وكل ما يحتاجه الحكم بالعدل
ومن ذلك بناء الحكم بمجرد الظنون والتهم التي ليس عليها دلیل واضح بين . وهذا يقتضي السماع من جميع الأطراف وإعطاء الفرصة للمدعين بإيضاح البينات وملابساتها، وفي المقابل تعطى الفرصة الكاملة للمدعى عليهم للدفاع عن أنفسهم وإبطال ما يمكنهم إبطاله من التهم الموجهة إليهم، ومن الظلم البين إعطاء الفرصة والوقت الكافي لأحد الخصمين لإيضاح دعواه وحرمان الآخر منها أو إعمال الضغوط عليه لاختصارها واقتضابها، ولقد مر بنا وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وفيها: (آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعیف من عدلك).
5- الإضرار بالمتحاكمين بتأخير البت في قضاياهم
الإضرار بالناس المتحاكمين ومصالحهم – وذلك بتأخير البت فيها دون مبرر شرعي – يعد من الظلم الذي يجب على القاضي تجنبه.
وهذا يقتضي من القاضي العادل الحريص على مصالح العباد الحفاظ على وقته وملئه بالنظر في قضايا الناس وسرعة البت فيها، وعدم التسويف فيها أو ضرب المواعيد البعيدة التي قد تؤدي ببعض القضايا إلى أن يمر عليها الشهور والسنوات ولما تنته بعد. نعم قد تحتاج بعض القضايا إلى وقت طويل، لكن الحرص على الوقت الذي حدد للقاضي أن يمضيه في عمله القضائي، والشعور بما يعانيه الناس من المشاكل والمتاعب، والشعور بأمانة العمل وما يؤخذ عليه من الأجر كل ذلك من شأنه أن يخفف كثيرا من هذه المعاناة . وإذا كان الانشغال بمصالح المسلمين وما يرفع الحرج عنهم مقدما على كثير من نوافل العبادة فكيف إذا كان الانشغال عن هذه المصالح العامة بغير ذلك .
6- الجور في إيقاع العقوبة
وذلك على من ثبت عليه جناية ليس عليها حد معين، وإنما هي خاضعة لاجتهاد القاضي في تقديره التعزير المناسب لها، فمن الجور مثلا إيقاع العقوبة الشديدة على جناية صغيرة كإيقاع عقوبة القتل مثلا على اللطمة أو إيقاع السجن بالسنوات ذوات العدد على كلمة فيها سب أو شتم لمسلم، ونحو ذلك من العقوبات الجائرة. والغالب في مثل هذه العقوبات أنها تنشأ من غضب شديد عند القاضي يغضب فيه لنفسه أو لغيره أو يجاري فيها وجيها أو سلطانا، وعادة ما تنطبع بطابع التشفي والانتقام ولذلك جاء النهي للقاضي أن يقضي وهو غضبان.
الهوامش
(1) الترمذي (1325)، والبغوي في شرح السنة (2496)، وقال هذا حديث حسن.
(2) شرح السنة 10/92 ، 93. ولا يفهم من هذا الحديث الامتناع مطلقا من القضاء، وإلا ضاعت حقوق الناس ودبت الفوضى بينهم. ولكن المقصود الحذر من الظلم فيه، والابتعاد عنه إذا كان هناك من يكفي للقيام بمصالح العباد .
(3) أعلام الموقعين 1/ 85، 86 وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : وهذا کتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول .
(4) شرح حدیث « يا عبادي إني حرمت الظلم » ص 52، 53.
(5) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر 6/303-305 باختصار.
(6) فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم 12/290-289.
(7) الترمذي ، ك الأحكام (1336) والبغوي في شرح السنة 10/88 وقال عنه أنه حديث حسن.
(8) في الأصل (يأخذ)، والسياق يقتضي ما أثبتناه .
(9) شرح السنة للبغوي 10/88.
(10) رواه أبو داود (2943) وصححه محققا شرح السنة 10/89.
(11) شرح السنة 10/87 .
(12) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/348 .
اقرأ أيضا
لوازم العبادة والتوكل .. الحكم بشرع الله والتحاكم إليه وحده
أهم مظاهر البُعد عن الاستقامة .. المجادلة عن المبدلين لشرع الله
قول الشيخ أحمد شاكر في ولاية المرأة القضاء
الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة