الجدال عن تبديل الشريعة والاعتذار أن أصحاب التبديل لا يكفرون إلا بقيد الاستحلال والتكذيب؛ هو نتاج عقيدة الإرجاء التي يفرح بها الطواغيت ويدعمونها.

مقدمة

ظهر علينا في الآونة الأخيرة من بعض الدعاة ـ هداهم الله ـ حيث إن الأمر بالنسبة لهم ـ ويا للأسف الشديد ـ قد تجاوز السكوت عن هذا الكفر الأكبر الذي أشرت إليه آنفًا في مقال (أهم مظاهر البُعد عن الاستقامة .. تبديل شرع الله الحكيم) إلى التهوين من شأنه والدفاع عن كونه شركًا أكبر، إنما هو من جنس المعاصي والذنوب التي يفعلها العباد.

وأنه ما دام أن المشرع لهذه القوانين، والحاكم بها لم يجحد، ولم يستحل فعله هذا؛ فإن هذا من جنس سائر الذنوب، والمعاصي، وبخاصة أنه يقول: لا إله إلا الله، وينتسب إلى الإسلام، ولم يجحد شرائعه!

رد أهل العلم لهذه الفرية

وللرد على هذه الفرية أنقل فيما يلي نقولات مختصرة من بعض علماء الأمة في القديم والحديث؛ يظهر لنا منها أن تبديل شرع الله عز وجل بغيره من تشريعات البشر هو في حد ذاته كفر أكبر سواء وجد الاستحلال أم لم يوجد.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ـ وكان ممن عاصر التتار الذين وضعوا قوانين ملفقة ألزموا الناس بها:

“إن الحاكم إذا كان ديّنًا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أوْلى أن يكون من أهل النار.

هذا إذا حكم في قضية معينة لشخص؛ وأما إذا حكم حكمًا عامًّا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطلًا والباطل حقًّا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهى عما أمره الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]“. (1«مجموع الفتاوى» (35 /388))

ويقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله تعالى، بعد أن ساق بعض فقرات الياسق الذي يحكم به التتار:

“.. فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا، وقدمها عليه؟

من فعل ذلك كَفَرَ بإجماع المسلمين، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

وقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]“. (2«البداية والنهاية» (13 /128))

قياس الأَوْلى على كفر من التزم الشريعة المنسوخة

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأن مَن التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتّبع القرآن فإنه كافر، وقد أبطل الله كل شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام”. (3«أحكام أهل الذمة» (1 /259))

وإذا كان مَن التزم بما جاءت به التوراة والإنجيل، ولم يلتزم القرآن هو كافر، فكيف بمن التزم بالقانون الفرنسي أو الإنجليزي أو غيرهما من دساتير الكفر؟! وتأمل كلام هذا الإمام رحمه الله تعالى وقوله «من التزم» من غير ذكر للاستحلال، لأن مجرد الالتزام بشريعة عامة غير شريعة الإسلام كفر في حد ذاته.

فتوى ورسالة تحكيم القوانين

وأخيرًا أنقل ما ذكره العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى وقد عاصر هذه الدول التي بدلت شرع الله عز وجل، والتزمت بغير شريعته، حيث ذكر أنواعًا ستة يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أكبرًا.

فبعد أن ذكر:

  1. الجاحد.
  2. والمفضّل لقوانين البشر على شرع الله تعالى.
  3. والمساوي بينهما.
  4. والمجوز للحكم بغير شرع الله تعالى، وهو المستحل,
  5. ذكر بعد ذلك النوع الخامس والسادس فقال:

“الخامس: وهو أعظمها وأشملها، وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية؛ إعدادًا وإمدادًا وإرصادًا وتأصيلًا وتفريغًا وتشكيلًا وتنويعًا وحكمًا إلزامًا، ومراجع ومستندات؛ فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك.

فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيئة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به وتقرّهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمدًا رسول الله بعد هذه المناقضة، وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها في هذا الموضع. (4«تحكيم القوانين» (ص 6 – 7))

ثم ذكر النوع الأخير فقال:

“السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها «سلومهم» يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضًا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله”. (5«تحكيم القوانين» (ص 6 – 7))

فانظر ـ رحمك الله ـ كيف وضع الشيخ رحمه الله تعالى النوع الخامس والسادس بعد النوع الرابع وهو المجوِّز المستحل، وهذا يدل عنده على أن التبديل للشرع كفر بذاته ولو لم يوجد استحلال.

توجيه باطل، وتحريف أقوال العلماء

ولما رأى المشترطون الجحود أو الاستحلال في كفر من حكم القوانين الوضعية هذه النقول الواضحة البينة خرجوا على الناس بتوجيه لهذه الأقوال، لم يسبقوا إليها، ولم ندرِ من أين جاءوا بها، فقال قائلهم:

“التبديل في الحكم في اصطلاح العلماء هو الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من عند الله، كمن حكم بالقوانين الفرنسية وقال: هي من عند الله أو من شرعه تعالى، ولا يخفى أن الحكام بغير ما أنزل الله اليوم لا يزعمون ذلك، بل هم يصرِّحون أن هذه القوانين محض نتاج عقول البشر القاصرة”.

سبحان الله العظيم! ما أعظم فرح الطواغيت المبدِّلين لشرع الله اليوم بمثل هذا الكلام! إن هذا الكلام لَمِمَّا يقدح في عقيدة الولاء والبراء؛ الولاء لله عزوجل وشرعه ودينه وعباده المؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين، وعداوتهم وفضح كفرهم، والكفر بهم وبمعبوداتهم.

وقد ناقش فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله هذه الشبهة في مقال له نشر في مجلة الدعوة قال فيه:

“.. هذا التبديل الذي ذكرت أنه كفْر بإجماع المسلمين هو تبديل غير موجود؛ وإنما هو افتراضي من عندك لا يقول به أحد من الحكام اليوم ولا قبل اليوم.

وإنما هناك استبدال وهو اختيار جعل القوانين الوضعية بديلة عن الشريعة الإسلامية؛ وإلغاء المحاكم الشرعية. وهذا كفر أيضًا لأنه يزيح تحكيم الشريعة الإسلامية وينحيها نهائيا، ويحل محلها القوانين الوضعية، فماذا يبقى للإسلام..؟

وما فعل ذلك إلا لأنه يعتنقها ويراها أحسن من الشريعة الإسلامية.

وهذا لم تذكره ولم تبين حكمه، مع أنه فصل للدين عن الدولة، فكأن الحكم قاصر عندك على التبديل فقط؛ حيث ذكرت أنه مجمع على كفر من يراه، وكأن قسيمه ـ وهو الاستبدال ـ فيه خلاف حسبما ذكرت، هذا إيهام يجب بيانه..”. (6نقلأ عن مجلة الدعوة السعودية: العدد (17490) تاريخ (4 /4 /421) اهـ (ص9))

والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن المتكلفين لهذه الشبهة قد أُتوا من تأثرهم بالمدرسة الإرجائية التي تحصر الإيمان في “التصديق والإقرار”، ولا تُدخل العمل في حقيقة الإيمان، وبالتالي فالكفر عندهم هو “التكذيب” أو “الجحود” أو “الاستحلال المضاد للتصديق”.

ولذلك جاءوا بهذه البدعة المحدثة في كون المبدِّل لشرع الله تعالى لا يكفر إلا إذا نسب ما جاء به من البديل إلى شرع الله تعالى؛ أي: أنه لا يكفر عندهم إلا إذا أعلن كذبه على الله تعالى، وقال هذا من عند الله وما هو من عند الله؛ فعـاد منـاط التـكفير عـندهم إلى “التكـذيب” و”الاستـحلال”، و”الكذب” على الله عز وجل؛ لا إلى مجـرد “التـبديل”.

وهـذا هـو أصـل بدعـة المـرجئة الـذين لا يـرون الكــفر إلا في “التكذيب” و”الجحود” أو “الاستحلال”، ولا يرونه في “الإباء” و”الاستكبار”، و”رفض الالتزام” بشرائع الإسلام؛ ما دام أنه “مصدِّق” غير “مكذِّب” ولا “جاحد” ولا “مستحل”..!

خاتمة

لم تكن العلمانية وتبديل الشرائع ليستقر ويتمكن في بلاد المسلمين لو أن العقيدة الصافية لأهل السنة ولأئمة السلف والقرون المفضلة ـ عقيدة النصوص ودلالتها ـ لو كانت هي المسيطرة.

أما مع مقدمات علم الكلام والفسلفة، وتراكم الانحراف، والأقوال المبتورة لأهل العلم، وقبول بعضها ورد بعضها، وتحريف كلام الأئمة، هذا مع مرض في القلوب يميل بهم الى الطواغيت، ويحدو بالأمة نحو الهلكة؛ إذا بنا نجد أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، تقف موقف العجز مكتوفة الأيدي أمام تبديل الدين وتأخير الشريعة، ثم أمام الهجوم عليها والتهكم بها، ثم أمام تجريم من ينادي بها وبتحكيمها وإقامتها.

إن الحقيقة الشرعية البسيطة أن التوحيد توحيدان:

توحيد الربوبية، ويقابله الشرك بالخلل في التصديق؛ بالتكذيب والاستحلال.

وتوحيد الألوهية والعبادة، ويقابله الخلل بالشرك في العبادة والتوجه وقبول الشرائع.

وأن الخلل في أحدهما لا يستلزم الخلل الآخر ولا يشترط له؛ فالتكذيب أو الاستحلال جريمة منفصلة، والتبديل والردّ جريمة أخرى منفصلة، وأن إخفاء هذه الجريمة في تلك واشتراط هذه لتلك هو تلبيس مرفوض، يقود الأمة الى الهلكة في الدين والدنيا.

أما آن لهذه الأمة أن تنتفض؟ وأما آن لهداتها من أهل العلم أن يصدحوا بالحق ويصدعوا به دون مواربة أو لجلجة؟

…………………………………

الهوامش:

  1. «مجموع الفتاوى» (35 /388).
  2. «البداية والنهاية» (13 /128).
  3. «أحكام أهل الذمة» (1 /259).
  4. «تحكيم القوانين» (ص 6 – 7).
  5. «تحكيم القوانين» (ص 6 – 7).
  6. نقلأ عن مجلة الدعوة السعودية: العدد (17490) تاريخ (4 /4 /421) اهـ (ص9).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة