الصبر عدة وسلاح المؤمن في مواجهة ثقل التبعات والمضي في طريق الدعوة الشائك حتى يتحقق أمر الله تعالى في إقامة هذا الدين.
الصبر في القرآن الكريم
إن مما يعين على الصبر ويقويه التواصي بتدبر کتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما ورد فيهما من الحث على الصبر وفضله وما أعده الله عز وجل للصابرين في الدنيا والآخرة ، وقد جاء ذكر الصبر في القرآن في تسعين موضع ليس المقام مقام التفصيل فيها ولكن أكتفي منها ببعضها ومن ذلك:
- قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة : 155-157] .
- وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
- وقوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24] .
- وقوله تعالى: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: 120] .
الصبر في السنة النبوية
- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلی الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة»1(1) الترمذي في الزهد (2400) وقال حديث صحيح ، ومسلم (1053)..
- عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة ؛ يريد عينيه»2(2) البخاري ك . المرض باب فضل من ذهب بصره (5653)..
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر»3(3) البخاري ك الرقاق ، باب الصبر عن محارم الله (6470) ومسلم (1053)..
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – يحكي نبيا من الأنبياء – ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ، ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»4(4) البخاري ك الأنبياء ، باب ما ذكر عن نبي اسرائيل (3477) ، مسلم (1792) ..
- وعن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى ، قال: هذه المرأة السوداء ؛ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله تعالى لي ، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك ، فقالت: أصبر ، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها»5(5) البخاري ك المرض ، باب فضل من يصرع (5652)، مسلم (2576) ..
- وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لآل ياسر بالصبر وهم يعذبون بقوله: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»6(6) ذكره ابن إسحاق كما في الحاكم (3/383)، والحلية (1/140)..
- وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : « قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط نصفين ، بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون»7(7) البخاري ك. الإكراه باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (6943) ..
أقوال السلف وسيرتهم وأخبارهم في الصبر والمصابرة .
ومما يعين على الصبر: التواصي بقراءة أقوالهم رحمهم الله تعالى وسيرتهم في الصبر والثبات وقوة التحمل وهي كثيرة جدا أذكر منها ما يلي :
- قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن أبي السفر قال: مرض أبو بكر رضي الله عنه فعادوه فقالوا : ألا ندعو لك الطبيب ؟
فقال : قد رآني الطبيب ، قالوا : وما قال لك ؟ قال : إني فعال لما أريد.
- وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مجاهد قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر ، وقال أيضا : أفضل عيش أدركناه بالصبر ، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما .
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا قطع الرأس بار الجسد ، ثم رفع صوته فقال : ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له ، وقال : الصبر مطية لا تكبو .
- وقال الحسن : الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد کریم عنده .
- وقال عمر بن عبد العزيز : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه .
- وقال میمون بن مهران : ما نال أحد شيئا من ختم الخير فما دونه إلا بالصبر .
- وقال سليمان بن القاسم : كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر . قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، قال : کالماء المنهمر .
- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت .
- وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال : سحابة صيف ثم تنقشع .
- وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24] لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوسا ، وقيل للأحنف بن قيس : ما الحلم ؟ قال : أن تصبر على ما تكره قليلا .
- وقدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد ، وكان من أحسن الناس وجها ، فدخل على الوليد في ثياب موشاة وله غديرتان وهو يضرب بيده ، فقال الوليد : هكذا تكون فتيان قریش! فعانه8(8) أي أصابه بالعين. فخرج من عنده متوسنا ، فوقع في اصطبل الدواب ، فلم تزل الدواب تطأه بأرجلها حتى مات ، ثم إن الأكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا : إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك ، فعزم على قطعها ، فنشروها بالمنشار ، فلما صار المنشار إلى القصبة وضع رأسه على الوسادة ساعة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدر على وجهه وهو يهلل ويكبر ، فأخذها وجعل يقلبها في يده ثم قال : أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله ، ثم أمر بها فغسلت وطيبت و کفنت في قطيفة ، ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين ، فلما قدم من عند الوليد المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه ، فجعل يقول : (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا) [الكهف :62]، ولم يزد عليه ، ثم قال : لا أدخل المدينة إنما أنا بها بين شامت بنكبة أو حاسد لنعمة ، فمضى إلى قصر بالعقيق فأقام هنالك ، فلما دخل قصره قال له عيسى بن طلحة : لا أبا لشانيك ، أرني هذه المصيبة التي نعزيك فيها ، فكشف له عن ركبته ، فقال له عيسى : أما والله ما كنا نعدك للصراع ، قد أبقى الله أكثرك ، عقلك ولسانك وبصرك ويداك وإحدى رجليك ، فقال له : یا عیسی ، ما عزاني أحد مثل ما عزيتني ، ولما أرادوا قطع رجله قالوا له: لو سقيناك شيئا كيلا تشعر بالوجع ، فقال : إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره وسئل ابنه هشام : كيف كان أبوك يصنع برجله التي قطعت إذا توضأ ؟ قال : كان يمسح عليها .
- وقال همام عن قتادة في قوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : 84] قال : كظم على حزن فلم يقل إلا خيرا ، وقال يحيى بن المختار عن الحسن : الكظيم الصبور ، وقال همام عن قتادة في قوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) أي كميد ، أي كمد الحزن .
- وقال الحسن : ما جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر ، وجرعة غيظ ردها بحلم .
- وقال عبد الله بن المبارك : أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن عطاء بن دینار أن سعيد بن جبير قال : الصبر اعتراف العبد الله بما أصابه منه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يری منه إلا الصبر ، فقوله : اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، كأنه تفسير لقوله : إنا لله ، فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالکه بما يريد ، وقوله : راجيا به ما عند الله ، كأنه تفسير لقوله : وإنا إليه راجعون ، أي ترد إليه فيجزينا على صبرنا ولا يضيع أجر المصيبة ، وقوله : وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ، أي ليس الصبر بالتجلد ، وإنما هو حبس القلب عن التسخط على المقدور ورد اللسان عن الشكوى ، فمن تجلد وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر»9(9) كل المنقولات السابقة من كتاب (( عدة الصابرين )) ص۷۰-۷۲ (باختصار) ..
- وقال الذهبي في ترجمته لأبي بكر النابلسي : ( قال أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد ، وصلبوه على السنة، سمعت الدارقطني يذكره ، ويبكي ، ويقول : كان يقول ، وهو يسلخ : (كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [الإسراء:58] .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : أقام جوهر القائد لأبي تمیم صاحب مصر أبا بكر النابلسي ، وكان ينزل الأكواخ ، فقال له : بلغنا أنك قلت : إذا كان مع الرجل عشرة أسهم ، وجب أن يرمي في الروم سهما ، وفينا تسعة ، قال : ما قلت هذا ، بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم ، وجب أن يرميكم بتسعة ، وأن يرمي العاشر فيكم أيضا فإنكم غيرتم الملة ، وقتلتم الصالحين ، وادعيتم نور الإلهية ، فشهره ثم ضربه ، ثم أمر يهوديا فسلخه .
قال معمر بن أحمد الصوفي : أخبرني الثقة أن أبا بكر ابن النابلسي سلخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه ، فكان يذكر الله ويصبر حتى بلغ الصدر فرحمه السلاخ ، فوكزه بالسكين موضع قلبه فقضى عليه 10(10) سير أعلام النبلاء، 16/148-149..
- وعن الشعبي ، قال شريح : « إني لأصاب بالمصيبة ، فأحمد الله عليها أربع مرات ، أحمد إذ لم يكن أعظم منها ، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها ، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب ، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني»11(11) سير أعلام النبلاء 4/105..
- وقال غسان بن المفضل الغلابي : « حدثني بعض أصحابنا قال : جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما بذلك ، فقال : أيسرك يبصرك مئة ألف ؟ قال : لا . قال : فبسمعك ؟ قال : لا . قال فبلسانك ؟ قال : لا . قال : فبعقلك ؟ قال: لا. في خلال ، وذكره نعم الله عليه ، ثم قال يونس : أرى لك مئين ألوفا وأنت تشكو الحاجة 12(12) سير أعلام النبلاء 6/292..
- وقال الحسن بن صالح : «لما احتضر علي بن صالح رفع بصره وقال : (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69] ثم خرجت نفسه ، قال : فنظرنا إلى جبينه فإذا ثقب قد وصل إلى جوفه وما علم به أحد من أهله»13(13) حلية الأولياء 7/329..
- عن الربيع بن أبي صالح قال : «دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج ، فبكى رجل ، فقال سعيد : ما يبكيك ؟ قال : لما أصابك ، قال : فلا تبك ، كان في علم الله أن يكون هذا ثم تلا: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22]»14(14) سير أعلام النبلاء (4/337)..
الهوامش
(1) الترمذي في الزهد (2400) وقال حديث صحيح ، ومسلم (1053).
(2) البخاري ك . المرض باب فضل من ذهب بصره (5653).
(3) البخاري ك الرقاق ، باب الصبر عن محارم الله (6470) ومسلم (1053).
(4) البخاري ك الأنبياء ، باب ما ذكر عن نبي اسرائيل (3477) ، مسلم (1792) .
(5) البخاري ك المرض ، باب فضل من يصرع (5652)، مسلم (2576) .
(6) ذكره ابن إسحاق كما في الحاكم (3/383)، والحلية (1/140).
(7) البخاري ك. الإكراه باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (6943) .
(8) أي أصابه بالعين.
(9) كل المنقولات السابقة من كتاب (( عدة الصابرين )) ص۷۰-۷۲ (باختصار) .
(10) سير أعلام النبلاء، 16/148-149.
(11) سير أعلام النبلاء 4/105.
(12) سير أعلام النبلاء 6/292.
(13) حلية الأولياء 7/329.
(14) سير أعلام النبلاء (4/337).
اقرأ أيضا
التواصي بالصبر من صفات الناجين من الخسران
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق
الصبر والتقوى من أخلاق الأنبياء