أشرف الأعمال والوظائف الجمع بين عبادة الله والدلالة عليه والأخذ بيد الخلق اليه، وتحبيبه اليهم، وتعريفهم بصراطه وطريق مرضاته.. ولهذا دوافع يجب ألا تُنسى ليبقى القصد خالصا والعمل صحيحا والأثر ربانيا.
مقدمة .. غرابة العنوان
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد يبدو لأول وهلةٍ غرابة عنوان هذه المقالة، إذ لا يعقل أنَّ أيّ داعية إلى الله عز وجل لا يعرفُ الغاية من دعوته إلى الله عز وجل، وجهادهِ في سبيله سبحانه؛ وهذا صحيحٌ من حيث الجملة، ولكنْ هناك فرقٌ بين المعرفةِ الذهنية المجردة، وبين التحرك بهذه المعرفة، والسير على ضوئها في واقع الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل.
وكم رأى الواحد من نفسه ومن غيره غفلةً عن هذه الأهداف، أو مصادمتها لواقع الدعوة العملي، مما ينشأ عنه مغالطات وانحرافات، وسببها البعدُ عن هذه الأهداف.
والمحافظة على هذه الأهداف، ومحاسبة النفسِ بين الحين والآخر على تحقيقها، كفيلٌ إن شاء الله تعالى أن تنطلق الدعوة بعيدة عن حظوظ النفس وأهوائها. وبالتالي يجدُ الداعي أثر دعوته وثمرتها جليًّا وسريعًا في نفسه وفي واقع الناس، كما يجدُ في نفسهِ أيضًا الحماس والاندفاع إلى الدعوةِ والجهاد، بغير مللٍ ولا فتور، وأكبر من ذلك كله قبول سعيه عند الله عز وجل.
أهداف الدعوة والجهاد
والأهداف الأساسية للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، يمكنُ حصرها في ثلاثة أهداف:
أولا: التعبُّد لله بشعيرة
الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر
التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة، شعيرة الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر، والتي هي أصل الدعوة إلى الله عز وجل والجـهاد في سـبيله سـبحانه، فشـعور الداعيـة أنَّهُ عبـد لله عز وجل، يحبُّ ربه ويحب ما يحبه ربه من الدعوة والجهاد، يُعـدُّ من أكبر الدوافـع إلى بذل الجـهد والجهاد في سبيل الله تعالى.
ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجـهاده إلاَّ على شـعوره بالعبـودية لله عز وجل لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة.
أثر هذا الشعور في القلب والعمل
كما أنَّ في مصـاحبةِ شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات الداعية، أكبر الأثر في التربية على الإخـلاص، وتحري الحق والصواب، واللذان هما شرطا قبول العبادة، والعـكس من ذلك عنـدما ينسى أو يغفل الداعية أنَّهُ متعبدٌ لله تعالى بدعوته وحـركته، فإنَّهُ بذلك يضعفُ إخلاصه، وتبدأ حظــوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، كما يضعفُ مع ذلك اتباع الدليل وتحري الحق، مما ينتجُ عنه في نهاية الأمر فتور الداعية، أو مزلة قدمه والعـياذ بالله تعالى.
[اقرأ: القنديل والمنديل، وما يجري على الدين من تبديل .. وقناديل من علماء السلف]
ثانيا: الفوز برضوان الله تعالى وجنته
وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين إليه على بصيرة.
ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح الداعين إليه سبحانه، والصابرين على ما أصابهم في سبيله، وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم.
وعندما ينشدُ الداعية إلى هذه الغاية، وتنجذب نفسه إليها، فإنَّهُ يستسهل الصعاب، ويمضي في طريقه بقوةٍ وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنَّهُ بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة، ولا ينتظرُ جزاءَ عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنَّما يروضُ نفسه ويُربِّيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم، في دار النعيم المقيم.
لا يهِنون ولا يضعُفون
ولذلك فإنَّ أصحاب هذه النفوس المخلصة، لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلُّوا وتوقفوا.
أمَّا أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأنَّ وقت ومكان توفية الأجر ليس مجالهُ الدنيا، وإنَّما فى الدارِ الآخرة، دار الحساب والجزاء، ولذلك فهم يعملون ويُجاهدون حتى يأتيهم اليقين.
[اقرأ: الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر ووصف ظاهرين، صابرين على اللأواء]
ثالثا: إخراج الناس من عبادة العباد الى عبادة رب العباد
إنقاذ الناس ـ بإذن الله تعالى ـ من عبادةِ العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن ظُلم الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذابِ النار يوم القيامة إلى جنات النعيم.
وعندما يتذكرُ الداعية هـذه المهـمة الجسيمة، وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنَّهُ يُضاعفُ من جهده، ولا يقرُّ له قرار وهو يرى الشـرك المستشري في الأمة، والفساد المستطير في مجتمعات المسلمين؛ والذي يؤول بالناس إلى الشقاء والظلم وكثرة المصائب في الدنيا، وإلى العذاب الأليم في الآخرة.
حال مؤمن آل فرعون
ولذلك فلا ترى الداعية المدرك لهذه الغـاية من دعوته، إلاَّ خائفًا على نفسه وعلى الناس من عـذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراهُ إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم، يريد من دعوته هـداية الناس، وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور، ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
ولسانُ حاله ومقاله يرددُ قول مؤمن آل فرعون لقومه، فى قول الله عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (غافر: 30 ـ 33).
[اقرأ ايضا: من قيم الإيمان]
آثاره على قلبه ومعاملته
وإنَّ مثل هذا الشعور، ليضفي الرفق بالناس والصبر على إعراضهم وأذاهم، والحرص على كلِّ مجالٍ يفتحُ لهم أبواب الخير، أو يغلق عنهم أبواب الشر، كما ينشئُ في القلب محبةَ المصلحين الداعين إلى الخير وهداية الناس في أي مكان من الأرض.
كما أنَّهُ يدفعُ إلى بذل الجهد، والتخطيط والتعاون مع جميع الداعين إلى الخير والبر والتقوى، بعيدًا عن التعصب والحزبية والولاءات الملوَثة.
خاتمة
إن الانتظام في سلك الدعاة الى الله لهو الشرف؛ إذ هو دلالة على الله، وعلى طريقه، وعلى حقه تعالى. فما من وظيفة أشرف ولا قول أحسن منه، وهو صلاح للقلب وللخلق وللحياة من حوله.
…………………………………….
اقرأ أيضا: