عندما تؤمن الأمة الإسلامية إيمانا كاملا بأن الشريعة الإسلامية هي هويتها ودستور حياتها، وأن مبادءها وقيمها هي منهاج تعاملها فيما بينها ومع الآخرين، فإنها ستحرص على تطبيقها؛ لأنها مصدر عزتها وقوتها وكرامتها.
ومن ثم ستحافظ عليها وتعادي وتوالي من أجلها، وستعتبر أي مساس لسلطانها وسيادتها خيانة في حق هذا الدين.
أما عندما يغيب التحاكم إلى شرع الله من حياة المسلمين، فإن الفراغ الرهيب في حياتهم ستملؤه النظم والقوانين والمناهج الوضعية المستوردة التي تَنْكَبُّ على صنع أجيال متمردة على حكم الله تعالى بالسياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية الجاهلية.
ومن ثم تذوب الفواصل بينهم وبين أعدائهم، فيتشبهون بهم في أنماط العيش وطرق الحياة المختلفة؛ لأن المغلوب في العادة يقلد الغالب في كل شيء.
التحذير من فتنة اليهود والنصارى
وهكذا أمر الله جل ثناؤه في كتابه الكريم بعدم تتبع أهواء الذين كفروا من أهل الكتاب والاحتكام إلى نظمهم الجاهلية، بما يقتضي عدم موالاتهم والبراءة منهم، وذلك في موضعين من القرآن الكريم:
الموضع الأول:
قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 49-51).
الموضع الثاني:
قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثية: 18-20).
محاولات اتباع ملتهم
فقد علم الله تقدست أسماؤه بأن اليهود والنصارى الذين بدّلوا دينهم وحرّفوه هم أعداء الدين الحق، وهو الإسلام. ولن يرضوا عن المسلمين حتى يتبعوا ملتهم.
وقد حاولوا منذ فجر الحروب الصليبية اجتثاث جذور الإسلام واستبعاد شريعته عن الحكم في بلدان المشرق الإسلامي، لكنهم لم يفلحوا رغم حربٍ ضروسٍ ضد المسلمين دامت نحو قرنين من الزمان.
ولكن في العصر الحديث واتتهم الفرصة حين كان العالم الإسلامي يغطّ في سباته العميق متخلفاً سلبياً متواكلاً، فوضعوا الخطط لغزو العالم الإسلامي، وأعدّوا العدة لذلك على كافة الصعد السياسية والمالية والحربية، فاحتلوا البلاد الإسلامية، وكان هدفهم الرئيس هو تعطيل الحكم بالشريعة الإسلامية.
ولذلك حذر القرآن الكريم من فتنتهم، وأنهم رأس البلاء بما يحيكون من الدسائس لتعطيل الحكم بالشريعة واستبدالها بقوانينهم الوضعية الجاهلية، ونَهى المسلمين عن عدم الركون إليهم وموالاتهم، والنهل من مواردهم الكالحة واتباع مناهجهم الضالة.
النخب العلمانية تعطل العمل بالشريعة
على أن تعطيل حكم الله تعالى وعدم تفعيل أحكام الشريعة في حياة المسلمين بلاء عظيم ابتليت به الأمة الإسلامية منذ احتلال النصارى الأوربيين لبلادهم، فقام هؤلاء بفتح المدارس العصرية التي تلقّن لأبناء المسلمين المناهج اللادينية والأفكار الهدّامة في خضم الغزو الفكري الذي استهدف العالم الإسلامي، فنشأت أجيال ونخب مقطوعة الصلة بالإسلام عقيدة وشريعة تعادي كل ما له علاقة بالدين.
وقد حاولَت هذه النخب ـ حين أمسكت بزمام الأمور بعد الاستقلال الصوري الذي مُنح للبلدان الإسلامية ـ تقليد الغرب في نهضته شكلا لا مضمونا، وأبعدت الإسلام عن كافة مجالات الحياة باستثناء الشعائر التعبدية، فأجهضت بذلك المفهوم الشامل للشريعة الذي أكدته نصوص القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.
وهكذا بذل أعداء الإسلام اليهود والنصارى جهودا ضخمة للوصول بالشريعة إلى هذا الحد، حيث حُصرت في دائرة العبادات، ومُنعت من التدخل في نظام حياة المسلمين، ومنعت من الهيمنة الكاملة على كل نشاط الحياة المسلمة.
[للمزيد اقرأ: الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة]
وِزْر ترك الشريعة
ويقع وزر ترك الشريعة على الصليبيين والصهاينة وتلامذتهم العلمانيين الذين نفذوا مخطط أسيادهم الغربيين وصبغوا الحياة الإسلامية بصبغة جاهلية كانت السبب الرئيس في معظم المشاكل الهيكلية التي يعاني منها العالم الإسلامي إلى يوم الناس هذا.
ومما يؤسف له أن تتبنى معظم الحكومات في العالم الإسلامي هذا الفكر المنحرف الضال الغريب على الإسلام والمسلمين 13 قرنا؛ إذ كان الحكم والنظام في أي دولة إسلامية كانت مرجعيته الشريعة الإسلامية، ولم يعرف التاريخ الإسلامي تحاكما إلى أي نظام أو قانون آخر.
وعلى الرغم من وجود مظالم كثيرة وحكومات جائرة وأنظمة باغية في التاريخ الإسلامي، إلا أنه لم يحصل أن وجد الناس أنفسهم يتحاكمون قسرا إلى غير كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
[للمزيد اقرأ: الإسـلام صبغـة تصطبـغ بهـا الأمـة]
نصوص نظرية يكذبها الواقع
فهذه الحكومات تعترف في دساتيرها نظريا بأن الإسلام هو دينها الرسمي، وأن الشريعة مصدر رئيس في الحكم، ولكن واقعها العملي يناقض ذلك تماما.
فهي ترفض أن تتدخل الشريعة الإسلامية في أنظمتها السياسية وفي حياتها الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والفنية، حتى غدت الدعوة إلى الإسلام الشامل الكامل بضاعة محظورة وسلعة مصادرة في كثير من بلاد المسلمين.
ونتج عن ذلك انزواء المسلمين في المساجد وانصرافهم إلى الشعائر التعبدية بمفهومها الضيق، حتى استقر في أذهان الغالبية من الناس أن هذا هو الإسلام الحق، وما دون ذلك فهو إقحام للإسلام فيما لا شأن له به.
[اضغط للمزيد: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك]
التضييق الغربي على من يقترب من الشريعة
وفي بعض البلدان التي تطبق فيها الشريعة ولو بشكل ناقص ـ كالسودان مثلا ـ فإن دوائر صنع القرار في الغرب تضيّق على هذا البلد في كافة المجالات، وتصنفه ضمن الدول الإرهابية، وتحرمه من المعونات الدولية ومن برامج التنمية التي تشرف عليها المؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة.
والهدف من هذه المضايقات الضغط عليه للتخلي عن الحكم بالشريعة الإسلامية، والتلويح بالعصا لمن يرغب من الأقطار الإسلامية النسج على هذا المنوال والسير في هذا الدرب، والتلويح بالجزرة لمن يتنكب عن الطريق المستقيم، ويوغل في محاربة الدعاة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، والزجّ بهم في السجون والمعتقلات تحت مسميات الإرهاب والأصولية والتطرف، والله المستعان.
……………………………………………….