كثيرًا ما يغبّش البعض على الحق ويشوهه ويصرف عنه وجوه الناس بأمر قيل في محل خاص مقصود به أمر خاص، فيجعله تكئة أو سلمًا لرفض قواعد ثابتة في هذا الدين بل من قواعده العظام.

وهذه عادة أهل الزيغ؛ أن يتبع أهله المتشابه لرد المحكَم، وبعضهم يتبع المتشابه الإضافي(1) ـ وهو ما لم يفهم الناظر وجهَه لخلل راجع إليه هو وليس لخفاء الدليل ـ لرد الحق المحكم الأبلج.

ومن أمثلة هذا أنه كلما نادى الناس بإقامة منهج الله وتحكيم شرعه قال بعضهم: «ما قال ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف:40) إلا الحرورية»..!

ويستدل على رفض دين الله تعالى وشريعته بأن الإسلام ذم الخوارج! بينما لم يفهم وجه ذم الخوارج ومحل مخالفتهم.

فيجعل ما جاء في ذم الخوارج دليلًا على ذم الدعوة والسعي لإقامة الدين والشريعة، بحجة أنه لا ينادي بهذا إلا الخوارج!

والمحزن أن هناك من ينخدع بهذه الشبهات الخطيرة.

قواعد حاكمة عن مصطلح الحاكمية

وهنا أذكّر فقط بقواعد عامة وحاكمة عن مصطلح الحاكمية:

فمن قال ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف:40) ليس الخوارج؛ بل هو رب العالمين، ونزل به جبريل وتلاه محمد صلى الله عليه وسلم، وتلاه ملايين المؤمنين جيلًا بعد جيل، وتلته الملائكة السفرة الكرام البررة. ولم يُنشئ الخوارج هذا القول! بل فهموه على غير وجهه كما سيأتي.

وهنا أوضح معنى الحاكمية الصحيح، ومحل ضلال الخوارج، من خلال ثلاث نقاط.

أولا: الحكم التشريعي

المقصود بإفراد الله تعالى بالحكم (الحكم التشريعي).

وهو ما جاء على لسان يوسف عليه السلام ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف:40).

وتكرر ذكره في القرآن العظيم بصيغ مختلفة ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشورى:10)، ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ (الأنعام:114)، وهو معنى إخلاص الدين لله، وقد تكرر ذكره في القرآن العظيم بصيغ مختلفة.

ومعناه: ما الحكم التشريعي في حياة الناس الخاصة والعامة، الفردية والجماعية، إلا لله تعالى.

ومقتضاه أن التشريع حق خالص لله تعالى، فيُقبل حكمه قانونًا عامًا وخاصًا للناس يحدد الحلال والحرام والواجب، وينشئ القيم والموازين، ويرسم الاتجاه الحضاري والتصورات الإسلامية والقواعد عن الخالق والكون والحياة والإنسان والمخلوقات.(2)

وهذا المعنى داخل في (أصل الدين)؛ فهو معنى (الإسلام) بالاستسلام لله وقبول أحكامه.

وهو أصل (الإيمان) بقبول الحكم مع تصديقه(3).

وهو معنى (الدين) بالدينونة لله بقبول شرعه.

وهو أحد «أركان التوحيد» لأنه من (أفراد العبادة) التي يجب إفراد الله بها، وهي الطاعة لله وحده، بقبول شرعه دون سواه.

وهو معنى الشهادة بأنه (لا إله إلا الله)؛ فالإله هو المألوه بالطاعة والتعبد والمحبة، والطاعة المقصودة هي الطاعة في أصل الدين وهي قبول الشرائع.

وهو معنى الشهادة (أن محمدًا رسول الله)، فـ ﴿مَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (النساء:64) فوظيفة الرسول منحصرة في أن يُطاع(4)، وهذا يعني قبول الرسالة وأحكامها، مع تصديق الرسول فيما أخبر.(5)

وبديل هذا تبديل الشرائع بتحليل الحرام وتحريم الحلال ورفض الواجبات والانسلاخ من الدين.(6)

[للمزيد اقرأ: قاعدة الإسلام عبر الرسالات]

ثانيا: الحكم القدَري

المعنى الثاني للحكم (الحكم القدَري)..

ومعناه: ما الحكم القدري ونفوذ المشيئة وتدبير شأن الحياة والأحياء والكون بتفاصيله ومجرياته إلا لله تعالى؛ فهو المدبر وهو المقدّر لما يشاء وحده.(7)

وهو ما جاء على لسان يعقوب عليه السلام ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف:67) ولهذا أعقبه بتوكله على الله ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ فالحكم القدري لله تعالى وحده كما قال ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ فهو الذي يُجري أقداره بما يشاء، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، إرادةً قدرية.

الجمع بين معنيَيْ الحكم

  • فالمعنى التشريعي الديني للحكم يستلزم الإسلام والإيمان.
  • والمعنى القدري يوجب التوكل عليه تعالى.

وبهما تكتمل العبودية لله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ بإفرادك بالعبادة والطاعة، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فنتوكل عليك وحدك. وقرن تعالى بينهما في آيات كثيرة، ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾.(8)

ثالثا: وجه انحراف الخوارج

وأما انحراف الخوارج فله شأن آخر:

وذلك أن حكم الله تعالى تارة يكون حكمًا مباشرًا بلا تحكيم؛ كالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبر الوالدين وأداء الأمانات وتحريم الربا والزنا والسرقة… وغيرها من أوامر الله تعالى.

وتارة يكون حكم الله تعالى أمرًا بتحكيم بعض الرجال في مواضع محددة كالصلح بين الخلق والتقدير الراجع الى العرف:

كالإصلاح بين الزوجين ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾ (النساء:35).

أو الصلح بين المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ (الحجرات:10)، ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..﴾

وكتحديد الحيوان الأهلي المماثل للحيوان البري الذي قتله المُحْرم في رحلة حجه أو عمرته ﴿فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ (المائدة:95).

وكتقدير نفقة الزوجات والأولاد بحسب حال الزوج أو الأب أو صاحب حق الولاية عليهم، وهذا التحديد لا يرجع إلى أنصبة ونسب محددة كالزكاة؛ بل يرجع إلى العرف والاعتبار بحال الزوج، أو حال الزوجة وما يُنفَق على مثلها، بحسب اختلاف الفقهاء ومآخذهم.

وهنا تكون الإحالة في الإصلاح أو التقدير إلى الرجال ليس نفيًا لحكم الله بل هو عين حكم الله، فحكم الله تارة يكون بتحكيم وتارة بغير تحكيم.(9)

فإذا أصلح الرجال بين المؤمنين، أو أصلح الحكمان بين الزوجين، أو قدّر الرجال قيمة الحيوان المثلي المقابل للصيد البري، فقال الخوارج لا حكم إلا لله، كان هذا جهلًا ومناقضة لحكم الله، وكان احتجاجًا بكلام الله لإبطال حكمه؛ إذ ما قام الناس حينئذ إلا بما أمر الله به.

[اقرأ: الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة]

فعل أصحاب رسول الله لم يخرج عما أمر الله

وهذا ما فعله الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون في الفتنة بين علي ومعاوية ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وبين علي وطلحة والزبير، رضي الله عن الجميع، وهو الإصلاح والتحكيم في تقدير كيفية هذا الإصلاح.

فلما اعترض الخوارج على هذا كان جهلًا شديدًا وإغلاقًا بيّنًا، وهو مصداق وصْف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم «يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم»(10) بمعنى يقرؤونه باللسان ولا يفهمون معناه؛ لأنه لا ينفذ إلى قلوبهم بل هو قراءة باللسان وترتيل بالحناجر دون وعي أو فهم لما دل عليه وكيفية إقامته.

ولهذا قتلوا أهل الإسلام وتركوا أهل الأوثان!(11)

فإذا أتى آتٍ وقال إنه لا ينادي بإقامة الدين وتحكيم الشريعة وسيادة منهج الله إلا الخوارج، كان قوله أشد جهلًا من الخوارج وكان هو من جنسهم وعلى طريقتهم وأسلوبهم في الفهم «يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم»..

وكان هو الأحق بالوصف ممن اتهمهم؛ بل أحق به من الخوارج أنفسهم! وفيهم وفي أمثالهم قوله تعالى ﴿ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا﴾.

[اقرأ ايضا: رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن ابراهيم]

أي الفريقين أحق بتهمة الخوارج

فلينظر أصحاب التهمة أي الفريقين أحق بها.. ولينظر الناس ممن يمنعهم عن إقامة دينهم ويحول بينهم وبين شريعتهم، ويُلقي الشبهات والفتن، كما قال علي بن أبي طالب في وصفه: «يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده».(12)

والله تعالى العاصم..

——————————

هوامش:

  1. الموافقات للشاطبي، وقد بين فيه الفرق بين التشابه الحقيقي الذي لا يعلمه إلا الله، والتشابه الإضافي الراجع إلى قصور الناظر في الأدلة.
  2. التشريع الجنائي، عبد القادر عودة.
  3. وهي عقيدة أهل السنة في الإيمان، خلافًا للمرجئة والخوارج.
  4. قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليُطاع بإذن الله)، راجع تفسير البيضاوي للآية الكريمة.
  5. الطريق إلى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.
  6. راجع رسالة العبودية لابن تيمية، واقتضاء الصراط المستقيم له أيضًا، وهو ليس تفسيرًا خاصًا به لمعنى الإسلام بل هو قاعدة محل إجماع بين المسلمين.
  7. كتاب شرح العقيدة الواسطية، محمد بن صالح العثيمين.
  8. انظر تفسير ابن كثير لهذه الآيات الكريمة.
  9. الموافقات للشاطبي، وقد بين فيه أن حكم الله تعالى تارة يكون بتحكيم، وتارة بغير تحكيم.
  10. متفق عليه.
  11. الاعتصام للشاطبي، وقد فسر الحديث السابق بهذا المعنى فيه، وفي الموافقات أيضًا.
  12. حلية الأولياء لأبي نعيم.

اقرأ ايضا:

فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك

وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه .. لابن باز

حكم الاحتكام إلى القوانين الوضعية (لابن باز)

التعليقات غير متاحة