يخسر كل من يركن إلى القوى الصليبية والصهيونية ويظن أن عندها رواء؛ فإذ به يجدها خواء، وأرضا بلقع، وخسارة كبيرة.. هكذا وجد الشريف حسين، خسارة الدين والدنيا.

التآمر ومظاهرة الصليبيين

“وانفصلت بلادنا عن المملكة العثمانية انفصالاً تامًا، وأعلنا استقلالاً لا تشوبه شائبة مداخلة أجنبية ولا تحكم خارجي”. (1جزء من أول منشور أعلنه الشريف حسين)

قال فيصل ابن الشريف له:

“ماذا ستفعل إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟”

احتد عليه الشريف قائلا:

“ألا تعرف بريطانيا العظمى؟ إن ثقتي فيها مطلقة”.

على الجانب الآخر كانت وعود للشياطين برّاقة:

“إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة”.

وعلى الأرض كانت هذه الحقائق:

أمدّت بريطانيا الشريف بالمال والسلاح، ففي خلال العام الأول فقط من ثورته أعطته 71 ألف بندقية وأكثر من أربعين مليون طلقة، بل وأرسلت إلى نجلي الشريف، فيصل وعلي، ألف سيجارة لكونهما المدخنَين الوحيدَين في عائلتهما؛ كما عززت بريطانيا جيش الشريف بأعداد كبيرة من الأسرى العرب التابعين للجيش العثماني”. (2“خدعة القرن.. الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية” مدونات الجزيرة)

إرهاصات ومقدمات الثورة العربية الكبرى

كانت الدول العربية جزءاً من الإمبراطورية العثمانية لفترات طويلة، إذ كانت الإمبراطورية العثمانية تمثل الإسلام والمسلمين، إلا أنّ الصفة الدينية لهذه الإمبراطورية تغيرت بعد قيام الجمعيّات القومية التركية بالسيطرة على مقاليد الحكم في تركيا، خاصة جمعية الاتحاد والترقي.

قامت هذه الجمعية في عام (1889 م) بتنفيذ انقلاب عسكري على السلطان عبد الحميد الثاني، فعمدت إلى اتباع سياسة التتريك، أي نشر اللغة التركيه من أجل إلغاء الثقافة العربية الإسلامية، فقد كانت تؤمن هذه الجمعية بسيادة القومية التركية”. (3“أسباب الثورة العربية الكبرى” موقع موصوع)

وكانت شكاوى العرب تنحصر في إقصاء عدد كبير منهم عن وظائفهم بالأستانة وعدم دعوة العرب لأي اجتماع للتأليف بين العناصر العثمانية، ولا إدخالهم في الجمعيات الاتحادية ولا اللجان المركزية، ولا حتى تعيينهم على الولايات والقضاء، ومعارضة الاتحاديين لكل مشروع علمي أو أدبي في البلاد العربية.

ثم بدأت بعض الأحزاب العربية بالظهور، ثم عقد في باريس أول مؤتمر عربي عام (1913م) ثم تفاقم أمر الاتحاديين وعظم تشددهم إلى القومية التركية.

ثم زاد الأمر عندما قام جمال باشا الذي لقب بـ “السفاح” بقتل عدد من الذين كشف أنهم يتآمرون من خلال جمعيات سرية على الاستقلال عن الدولة العثمانية.

وكان العرب قد رأوا أن يتجمعوا حول زعيم واحد ويشكلوا قوة كبيرة عربية؛ فرأوا من الشريف “حسين بن علي” ـ شريف مكة وأميرها ـ ذلك الشخص؛ فأجابهم.

وكان من تمكن من بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين هربوا من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها تم التفاهم بواسطتهم بين زعماء العرب وجمعياتهم وبعض المقامات العالية وقرر القرار على إعلان الثورة في الحجاز. (4“الموسوعة التاريخية،ج9/ص311”)

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .. المؤامرة الإنجليزية

عندما شعَر الإنجليز أن “الشريف حسين” هو رجلهم المنشود لفكّ عُرى الخلافة الإسلامية أخذوا في التآمر لاستغلال شخص هذا المغفل الكبير وذلك على النحو الآتي:

  1. توثيق العلاقة مع الشريف حسين بتبادل الزيارات والمعونات السخية له.
  2. وعود إنجليزية خادعة للشريف حسين بجعله خليفة على دولة عربية مستقلة. والعجيب أن انجلترا تستدل على وعودها الكاذبة بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش».
  3. ترسيخ فكرة “الخلافة” في المراسلات المتبادلة بين الطرفين والتي عرفت “حسين ـ ماكماهون” و”ماكماهون” هو المندوب الإنجليزي في مصر، وكانت هذه الرسائل كلها تملُّق وتزلف كاذب لخداع الشريف حسين واستغفاله، وفي وسط الكلام تدس كلامًا غامضًا لا يتضح فيه إلا سوء نية الإنجليز.

وهاكم مثلاً على تلك الرسائل الخادعة يوضح ما قلناه:

“بسم الله الرحمن الرحيم: إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر، والنسب الفاخر، قِبلة الإسلام والمسلمين، معدن الشرف، وطيد المحتد، سلالة مهبط الوحي المحمدي؛ الشريف بن الشريف، صاحب الدولة السيد الشريف “حسين بن علي” أمير مكة المعظم، زاده الله رفعة وعلاءً.. آمين..”

ثم يختم رسالته بقول:

“إن جلالة ملكة بريطانيا العظمى ترغب باسترداد الخلافة على يد عربي حميم من فرع تلك الدوحة النبوية المباركة”

ثم يختم خطابه بالتاريخ الهجري.

وهكذا نرى النفاق والمداهنة والخداع في هذا الخطاب الذي كان هو وأمثاله سببًا لوقوع “الشريف حسين” في تلك المكيدة، وكانت هذه الرسائل تصل من “ماكماهون” إلى “حسين” عن طريق رجل مصري اسمه “علي حسين روحي”، وهو رجل مرتد كافر يدين بـ “البهائية”، وكان أبوه موظفًا في دار المندوب الإنجليزي، والإنجليز دائمًا شديد الثقة بأمثال هؤلاء المرتدين من البهائيين والقاديانيين، ويعتمدون عليهم في أعمالهم السرية ببلاد المسلمين”. (5“الشريف حسين أمير المغفلين”، هشام عبد المنعم، موقع قصة الإسلام)

تسلسل أحداث الثورة العربية الكبرى

بدأ القتال فعلا بين العرب وجيوش العثمانيين في الحجاز في التاسع من شعبان سنة (1334هـ / 10 يونيو 1916م) وأعلنوا استقلالهم، وهاجموا الثكنات التركية في مكة، وحمِي القتال خلال يومين حتى تعطلت الصلاة والطواف في المسجد الحرام، وكذلك الأمر في جدة؛ دام القتال ستة أيام حتى سقطت بيدهم، وفي التاسع من رمضان استسلم الأتراك في مكة، وفي ذي القعدة سقطت الطائف. ثم أعلن الحجاز استقلاله عن الاتحاديين فانتهز الإنكليز والفرنسيين الفرصة وبدؤوا في إرسال التهاني.

أما السوريون واللبنانيون فلم ينلهم من الثورة إلا الحصار والاضطهاد حيث كانت كفاءتهم الحربية ضعيفة مقارنة مع كفاءات العثمانيين في هذه المنطقة وكانت جيوش الثورة عبارة عن ثلاثة جيوش كل واحدة بقيادة ولد من أولاد “الحسين” وهم “فيصل” و”عبد الله” و”علي”، وكان مع جيش “فيصل” “لورنس” وكان يتلقى أوامره من الجنرال “اللنبي”..”. (6الموسوعة التاريخية،ج9/ص313″)

واستطاعت القوات الثائرة أن تستولي في أقل من ثلاثة أشهر على جميع مدن الحجاز الكبرى باستثناء المدينة النبوية التي بقيت محاصَرة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يلبث أن بويع الشريف حسين ملكًا على العرب.

وقد نسفت القوات العربية بقيادة الأمير فيصل سكة حديد الحجاز، واحتلت ينبع والعقبة، واتخذوا من العقبة نقطة ارتكاز لهم، ثم أخذ فيصل يتقدم ليحارب الأتراك في منطقة شرقي الأردن، وبذلك قدم للحلفاء أكبر مساعدة؛ حيث استطاع اللورد “اللنبي” قائد القوات الإنجليزية أن يدخل القدس بمعاونة العرب، كما أن احتلال القوات العربية للمنطقة شرقي معان قد حمى ميمنة القوات البريطانية في فلسطين من هجمات الأتراك عليها في منطقة بئر سبع والخليل، وحمى خطوط مواصلاتها، ولم تلبث القوات العربية أن تقدمت في (ذي الحجة 1336هـ= سبتمبر 1918م) فاحتلت دمشق واصطدمت بالأتراك قبل أن يدخلها اللنبي، ولم يمض أكثر من شهر حتى زال النفوذ العثماني من سوريا، بعد أن أمضى بها أربعة قرون. (7فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى، راغب السرجاني، ج5/ 12)

نتائج الخيبة العربية الكبرى

لم يعلم العرب باتفاق “سايكس ـ بيكو” إلا عندما أعلنه البلاشفة بعد قيام ثورتهم في روسيا، وتأكد العرب أن الاتفاق أهمل تأسيس خلافة عربية، وأعطى بعض أجزاء من الدولة العربية المنتَظرة لفرنسا، وأثار هذا الاتفاق حفيظة العرب، إلا أنهم مضوا في ثورتهم بعد الحصول على طمأنات من البريطانيين، ونجح العثمانيون في تصوير “الشريف حسين” على أنه خائن للإسلام متحالف مع الدول المسيحية ضد دولة إسلامية، إلا أن الخلافات الحقيقية بين العرب والإنجليز تعمقت وظهرت مع إطلاق بريطانيا لوعد “بلفور” في (المحرم 1336هـ=نوفمبر 1917م)، وتعهدت فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

ثم كانت الصدمة الثانية للعرب في انعقاد مؤتمر “سان ريمون” في (شعبان 1339هـ=إبريل 1920م) وتقرر فيه وضع القطاع العربي الشمالي الممتد من البحر المتوسط إلى فارس تحت الانتداب، فأعطيت بريطانيا الانتداب على العراق وفلسطين وشرقي الأردن، وأعطيت فرنسا الانتداب على سوريا ولبنان.

وهكذا دخل الشرق العربي في مرحلة الاستعمار الأوروبي وتجزئة المنطقة العربية إلى وحدات وكيانات سياسية تكافح الاستعمار الأوروبي بعد اختفاء الدولة العثمانية، وكان نصيب الشريف حسين من ثورته، تمجيد القوميين والغربيين له في كتب التاريخ بوصفه قائد “الثورة العربية الكبرى”.. والحق أنها كانت الخيبة العربية الكبرى”. (8الثورة العربية.. وعود وخداع!، مصطفى عاشور، أرشيف إسلام أونلاين)

معاهدة سايكس بيكو ونهاية الثورة

في الوقت الذي كانت انجلترا تخدع “الشريف حسين”، وتستدرجه لفك عُرى المسلمين، كانت على الجانب الآخر تعقد اتفاقية “سايكس ـ بيكو” مع فرنسا لتمزيق العالم الإسلامي وتقسيم تركة الخلافة بينهم.
قائد الجيش العثماني ببلاد الشام “جمال باشا” يبعث برسالة إلى “الشريف حسين” يحذره من المؤامرة؛ فماذا كان رد الشريف حسين المغفل؟
كان تصرف “الشريف حسين” يدعوا حقًا للتعجب ويبرهن على غفلة هذا الرجل؛ حيث أرسل بصورة رسالة “جمال باشا” للإنجليز يستفسر منهم عن حقيقتها..! كأنهم ملائكة مصدَّقون لا يكذبون ولا يخدعون..!

فجاء رد الخارجية الإنجليزية بالإنكار. وصدّق المغفل “حسين” ولا عجب. ولكنه أفاق على صدمة هائلة جاءت في صورة وعد “بلفور” وإعراض الإنجليز عنه وتحولهم إلى ابنه “فيصل”.

كان صدور وعد “بلفور” من وزارة الخارجية البريطانية والذي يتعهد فيه بقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، واتفاق “سايكس بيكو” من الأمور التي حدثت أثناء ما سُمّي اصطلاحاً بالثورة العربية، وكان يجب أن يكون لها الأثر الكبير في معرفة طبيعة السياسة الاستعمارية لقوات الحلفاء والإنكليز خصوصاً.

كان ثمن الثورة بالنسبة إلى العرب غالياً على المدى الطويل والقصير، دفعوا جميعاً هذا الثمن مع أن أقل من (10%) منهم اشتركوا في الثورة. حتى في الحجاز لم يكن الرأي العام وراء “الحسين”.

وليت الشريف “حسين” وأنصاره كسبوا حتى فخْر هذا العمل الذي قاموا به في نظر الإنجليز والفرنسيين، ذلك أن البطل الحقيقي لهذه المأساة كان في نظر الغرب رجل إنجليزي غريب الأطوار هو “الكولونيل لورنس”.

خاتمة

هكذا نجد أنه إرضاء لمطامح حفنة من العرب، وأوهام حفنة من الخطباء المتحمسين على منابر دمشق؛ دفع العرب ـ كل العرب ـ ثمناً باهظاً، وما زالوا يدفعونه.

ويوم (10 حزيران /يونيو 1916) كان دون شك يوماً مشؤوماً كان من نتاجه أن أصبح “الكيان الصهيوني (إسرائيل)” هي معضلة العرب الكبرى. وهي نتيجة مباشرة لهذه الخطوة التي خطاها الشريف “حسين بن علي”؛ فقد تقاسمت فرنسا وإنجلترا ميراث الدولة العثمانية في البلاد العربية (عدا الجزيرة) وحولتها إلى مستعمرات تحت أسماء شتى”. (9“الثورة العربية الكبرى: أحداث وعبر ممن خانوا المسلمين طمعًا في الحكم”، موقع تبيان)

……………………………

الهوامش:

  1. جزء من أول منشور أعلنه الشريف حسين.
  2. “خدعة القرن.. الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية” مدونات الجزيرة.
  3. “أسباب الثورة العربية الكبرى” موقع موصوع.
  4. “الموسوعة التاريخية،ج9/ص311”.
  5. “الشريف حسين أمير المغفلين”، هشام عبد المنعم، موقع قصة الإسلام.
  6. الموسوعة التاريخية،ج9/ص313″.
  7. فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى، راغب السرجاني، ج5/ 12.
  8. الثورة العربية.. وعود وخداع!، مصطفى عاشور، أرشيف إسلام أونلاين.
  9. “الثورة العربية الكبرى: أحداث وعبر ممن خانوا المسلمين طمعًا في الحكم”، موقع تبيان.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة