تملأ الدنيا قلوب المشركين والكفار والمنحرفين عن الحق، ويتعاظم في حسِّهم الخوفُ من الدنيا وعليها والاستهانة بالعقيدة. لكن قرّر رسول الله الأمر على وجهه الصحيح ولم يستجب لهم من أجل البشرية كلها.
صور من المساومة
إن من أهم سمات التربية في المرحلة المكية الثبات على المبدأ، والصلابة في الحق، وعدم التنازل، ورفض أي شكل من أشكال المساومات وأنصاف الحلول في قضايا الدعوة.
لقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صامداً أمام الإغراءات والعروض، لم ينثنِ ويتراجع أمام التحديات وأساليب التهديد والترهيب التي مارسها إزاءه المشركون؛ فلم يساوم قط في دينه، وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة وهو محاصَرٌ بدعوته، وأصحابه القلائل يُتخطفون ويُؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون محتسبون.
وقد اتخذت مساومة المشركين له في دعوته صوراً شتى من “المساومة على الدعوة كلها” بأساليب التهديد والترغيب ـ كما جاء في كتب الحديث والسيرة ـ إلى “المساومة على جانب منها” للالتقاء معه في منتصف الطريق، كما قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: 9).
مساومة المشركين على الدعوة بـ “الترهيب”
لجأ المشركون في بادىء الأمر إلى أسلوب “التهديد” لثني صاحب الدعوة عن المضي في طريقه المرسوم.
من ذلك ما روي عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال: يا عقيل! انطلق فائتني بمحمد، فاستخرجته من كنس ـ أو قال : خنس “يقول بيت صغير” ـ فجاء به في الظهيرة ـ في شدة الحر ـ فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانتهِ عن أذاهم.
فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: «ترون هذه الشمس؟» قالوا: نعم، قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منه بشعلةٌ» وفي رواية : «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار».
فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط ، فارجعوا راشدين. (1)
وصورة أخرى كانت في إيذاء قومه له بعد أن أعياهم أمره؛ نقلها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وهو شاهد عيان؛ قال:
«حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحِجْر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسب آلهتنا.
لقد صرنا على أمر عظيم ـ أو كما قالوا ـ قال: فبينما هم كذلك، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى.
فلما مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح».
فأخذت القومَ كلمتُه، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع..
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في “الحِجْر” وأنا معهم؛ فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم منه، حتى إذا بدأكم بما تكرهون تركتموه..
فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ ـ كما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم ـ قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا الذي أقول ذلك».
قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ دونه يقول وهو يبكي: “أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله..؟!” ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لأشدُّ ما رأيت قريشاً بلغت منه صلى الله عليه وسلم. (2)
وقوله: “فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه صلى الله عليه وسلم”: يعني ما رآه هو، وليس ما رأى غيره؛ حيث أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك، كما سبق ذكره.
[للمزيد .. خصائص المرحلة المكية في مجال المعرفة.. العقيدة والبدء بها]
مزاوجة المشركين بين الترهيب والترغيب
صورة أخرى للمساومة تجلَّت في التلميح بالتهديد والإغراء في آن واحد، وذلك بتوعُّده ثم إغرائه وعرض المناصب والمال والنساء عليه؛ فأبى عليهم.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اجتمعت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأْت هذا الرجلَ الذي فرق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فلْيكلمه، ولينظر ما يرُدّ عليه.
قالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. قالوا: أنت يا أبا الوليد.
فأتاه عتبة فقال: “..أما والله ما رأينا سخطة أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتّتَّ أمرنا، وعِبْتَ ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، ما ينتظر إلى مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى .
أيها الرجل..! إن كان إنما بك الحاجة؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشراً.
“وفي رواية ابن إسحاق : يا ابن أخي! إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً؛ جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاُ، وإن كنت إنما تريد شرفاً؛ سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد مُلكاً؛ ملكناك علينا”.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرغت ؟» قال: نعم؛ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ حتى بلغ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ (فصلت:1 ـ 13).
فقال عتبة : حسْبُك، ما عندك غير هذا..؟ قال «لا». (3)
خط للاقتداء
أغلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق على أنصاف الحلول، وقطع الطريق على التراجع.
لقد كان يرسم خطا للبشرية، وكانت القضية أكبر من قريش وكفارها.. لقد كانت قضية ينتظرها كل إنسان لم يولد بعد، يريد النور ويبحث عن الهدى.
لقد حفظ رسول الله لنا وللبشرية كلها الطريق، مقررا أن الحق حق، وأن الباطل لا قيمة له، ولا وزن .. وأن الحق أكبر من كل عروض المشركين وتهديدهم، وأن ما يلتمع في أبصار المشركين وما يشغل قلوبهم لا يشغل قلبه الكبير ولا قيمة له في نظره. إن الطريق جدّ مختلف.
فصلى الله على محمد دائما أبدا في الأولين والآخرين.
……………………….
الهوامش:
- قال ابن حجر في المطالب العالية: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح، والطبراني في الأوسط والكبير، رقم 4278 ، ج4 ، ص 192.
- رواه أحمد في المسند، ج2 ، ص 218. وأخرجه البخاري مختصراً، ج4 ، ص 197 ـ 198.
- رواه ابن هشام في السيرة، ج1، ص 313، وصححه الشيخ الألباني في حاشية فقه السيرة للغزالي، ص 168.