ثمة أمور معِينة على الثبات، وثمة ميادين يجب الانتباه اليها فهي تحتاج الى تحفيز النفوس لتكون محلا للثبات وتجنب الفتن. والسعيد من ثبّته ربه.

مقدمة

ما بين التربية على هذا الدين، والأخوّة الصالحة، وبين استشعار شرف الطريق ونعمة الاصطفاء، والصحبة الصالحة لتكون بركة المسلم على أخيه، والثقة بهذا الدين وبأن المستقبل للإسلام، بهذا وغيره ـ مع الافتقار والتوكل على الله تعالى ـ يقف المسلم ثابتا بإذن الله أمام ميادين الفتن المتعددة التي تتعدد مع غربة الاسلام وتكالب العدو وتأخر الزمان.

التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة

التربية الإيمانية

التي تُحْيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال.

التربية العلمية

القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة.

التربية الواعية

التي تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً، وبالأحداث فهماً وتقويماً، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة.

التربية المتدرجة

التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطِّمة.

مصداق التربية في سيرة رسول الله

ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي، صلى الله عليه وسلم، في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟

كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشِّعب وغيره؟

هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ثقَّلت شخصياتهم؟

لنأخذ صحابياً مثل “خباب ابن الأرت”، رضي الله عنه، الذي كانت مولاته تُحْمي أسياخ الحديد حتى تحمَر، ثم تطرحه عليه عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك (شحم) ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟

             و”بلال” تحت الصخرة في الرمضاء …  و”سميَّة ” في الأغلال والسلاسل

وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني، من الذين ثبتوا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في “حُنيْن” لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم مسلمة الفتح الذين خرج أكثرهم طلباً للغنائم، وحديثو العهد بالإسلام؟

كلا؛ إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقّت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

لو لم تكن هناك تربية تُرى هل سيثبت هؤلاء؟

الثقة بالطريق

لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر؛ ولهذا وسائل منها:

الطريق عتيق

استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداّ ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق (1عتيق: صفة مدح، مثل: [وليطوّفوا بالبيت العتيق]، “عليكم بالأمر العتيق”)، قد سار فيه من قبلُ الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون؛ فتزول غربتك، وتتبدل وحشت أُنساً، وكآبتك فرحاً وسروراً، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.

الشعور بالاصطفاء

قال الله، عز وجل: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59]، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا…﴾ [فاطر: 32]، ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ [يوسف: 6] وكما أن الله اصطفى الأنبياء؛ فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو”ما ورِثوه من علوم الأنبياء”.

ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو حيواناً، أو كافراً ملحداً، أو داعية إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء؟

ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك؛ وأنْ جعلك داعية من دعاة أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟

الالتفاف حول العناصر المثبتة

تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به، عليه الصلاة والسلام: «إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر». (2حسَن، رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعا، صحيح الجامع (2219))

البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معينٌ كبير على الثبات، حتى قال بعض السلف:

“ثبَّت الله المسلمين برجلين: (أبي بكر) يوم الردة، و(الإمام أحمد) يوم المحنة”.

وهنا تبرز الأخوّة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت؛ فإخوانك الصالحون هم العوْن لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبّتونك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الْزمْهم وِعِش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتخطفك الشياطين.

الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام

نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل الأقدام بعد ثبوتها.

قال تعالى: ﴿وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ *فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 146-148].

ولما أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يثبّت أصحابه المعذَبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن؛ فماذا قال؟

جاء في حديث خباب عند البخاري: «ليتمّنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه». (3البخاري)

فعرْض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهمٌّ في تربيتهم على الثبات.

معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به

في قول الله، عز وجل: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ…﴾ [آل عمران: 196] تسريةٌ عن المؤمنين وتثبيت.

وفي قوله، عز وجل: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ [الرعد: 17] عبرةٌ لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.

ومن طريقة القرآن فضحُ أهل الباطل وتعريةُ أهدافهم ووسائلهم ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55]، حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غِرّة، وحتى يعرفوا من أين يؤتَى الإسلام، وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوَت ودعاة زلّت أقدامهم؛ ففقدوا الثبات لما أُتُوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.

استجماع الأخلاق المعينة على الثبات

وعلى رأسها الصبر، ففي حديث الصحيحين: «ما أُعطي أحدٌ قط خيراً وأوسع من الصبر»، وأشد الصبر: عند الصدمة الأولى.

وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدم الصبر.

تأمل فيما قاله ابن الجوزي، رحمه الله:

“رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة، فمات ولدٌ لابنته، فقال: ما ينبغي لأحدٍ أن يدعو، فإنه ما يستجيب. ثم قال: إن الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً”. (4“الثبات عند الممات” لابن الجوزي) تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.

لما أُصيب المسلمون في أُحُد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر، فعلّمهم الله بدرس شديدٍ بالدماء والشهداء: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].

ماذا حصل من عند أنفسهم..؟

فشلتم، وتنازعتم في الأمر، وعصيتم، منكم من يريد الدنيا.

مواطن الثبات

وهي كثيرة، نكتفي بسرد بعضها في هذا المقام:

أولاً: الثبات في الفتن

التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السرّاء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم. ومن أنواع الفتن:

فتن المال

﴿ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ﴾. [التوبة:75-76]

فتنة الجاه

﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾. [الكهف: 28]

فتنة الزوجة

﴿إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾. [التغابن:14]

فتنة الأولاد

” الولد مجبنة مبخلة محزنة”. (5صحيح الجامع (7037))

فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم

ويمثلها أروع تمثيل قول الله، عز وجل: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. [البروج: 4-5]

وروى البخاري عن خباب، رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بُرْده في ظل الكعبة. فقال، عليه السلام: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيؤتَى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يُبعده عن دينه».

فتنة الدجال

وهي أعظم فتن المحيا: «يا أيها الناس؛ إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال … يا عباد الله، أيها الناس؛ فاثبتوا، فإني سأصفه صفة لم يصفها إياه قبلُ نبيٌّ..». (6رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة صحيح الجامع (7752))

وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب عرضَ الحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أُشربها نُكتت في قلبه نكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا؛ لا تضرّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُربَّداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرب من هواه». (7رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعاً)

ثانياً: الثبات في الجهاد

﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: 45].

ثالثاً: الثبات على المنهج

﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 23]، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل.

رابعاً: الثبات عند الممات

﴿إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30].

خاتمة

إن ولوج طريق الله فوز، والثبات عليه فوز، والوفاة عليه هو تتميم للفوز. وهو طريق نفيس يستحق أن يبذل له الغالي والنفيس للحصول على شرف سلوكه، فمن وطئه قبلك نبي، أو صديق، أو شهيد، أو صالح بر تقي.. فيا للشرف المروم.

اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

…………………………….

هوامش:

  1. عتيق: صفة مدح، مثل: [وليطوفوا بالبيت العتيق]، ” عليكم بالأمر العتيق “.
  2. حسَن، رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعا، صحيح الجامع (2219) .
  3. البخاري.
  4. الثبات عند الممات ” لابن الجوزي.
  5. صحيح الجامع (7037) .
  6. رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة صحيح الجامع (7752).
  7. رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعاً.

المصدر:

  • راجع: محمد صالح المنجد، مجلة البيان ربيع الآخر – 1409هـ (السنة: 3)

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة