إن التدبر في الآيات القرآنية المتلوة، لا يكون بإقامة حروف القرآن وتحسين تلاوته فقط، لكن ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ، وأن ننظر في المعاني، فإن الله عز وجل يظهر في هذا الكون، وفي نفس الإنسان من الآيات ما يظهر به للناس قدرته عليهم، وربوبيته لهم، وتدبيره لأمرهم.
التفكر في الآيات الشرعية
يقول الله عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29] ذكر جملة من الآيات التي تحث على تدبر کتاب الله عز وجل، وما يتضمن من الآيات الباهرة في إقامة الدلائل على التوحيد والمعاد، والإيمان بالرسل، والكتب، ولفت الأنظار والأفكار إلى آیات ذلك في الآفاق والأنفس والآلاء والآيات الخارقة، وكذلك ما فيه من الأحكام والتشريعات التي تحقق للعباد مصالحهم العظيمة في معاشهم ومعادهم.
ومن ذلك قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون:68].
وقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:17]، وغير ذلك من الآيات .
تحرير معنى التدبر في آيات القرآن
«والتدبر عند أهل اللغة هو التفكر، ولكن مادة الكلمة تدور حول أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها؛ فالتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تئول إليه، ومن هذا نستطيع أن نفهم أن التدبر هو: التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلام ومراميه البعيدة»1(1) “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله – عزَّ وجلَّ”، ص10..
فالمتدبر لكتاب الله يجد فيه الأمر والحض على النظر والتفكير في آيات الله تعالى المشهودة في الآفاق والأنفس، والآلاء والنعم، وسير الأنبياء مع أقوامهم، والنظر فيما قدمت النفس ليوم معادها، والتفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما، كما يجد المتدبر لكتاب الله آیات عظيمة وكثيرة لعظمته سبحانه وقدرته في الخوارق التي يريها الناس، وينصر بها أنبياءه وأولياءه، كما يجد الحكم الباهرة في شرعه وأحكامه، كل ذلك يتضمنه كتاب الله عز وجل ويجده المتدبر والمتفكر في آياته الكريمة.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومجاري هذه الفكرة تدبر كلامه، وما تعرف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه، وتدبر أيامه وأفعاله في أوليائه وأعدائه التي قصها على عباده، وأشهدهم إياها ليستدلوا بها على أنه إلههم الحق المبين الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ويستدلوا بها على أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، وأنه شديد العقاب، وأنه غفور رحيم، وأنه العزيز الحكيم، وأنه الفعال لما يريد، وأنه الذي وسع كل شيء رحمة وعلما، وأن أفعاله كلها دائرة بين الحكمة، والرحمة والعدل والمصلحة لا يخرج شيء منها عن ذلك، وهذه الثمرة لا سبيل إلى تحصيلها إلا بتدبر کلامه والنظر إلى آثار أفعاله»2(2) «مفتاح دار السعادة» (191/1 )..
ومن النصح لكتاب الله تدبره وفهم معانيه والاتعاظ بها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قلنا لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»3(3) رواه مسلم (55)..
وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: «قال العلماء رحمهم الله عز وجل: النصيحة لكتاب الله تعالى: هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى… ثم نعظمه، وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة … والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم بمتشابهه … والدعاء إليه»4(4) «التبيان في آداب حملة القرآن» (ص 113)..
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «التفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه، فالأول تفكر في الدليل القرآني، والثاني تفكر في الدليل العياني، فالأول تفكر في آياته المسموعة، والثاني تفكر في آياته المشهودة؛ ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه ويعمل به، لا لمجرد التلاوة مع الإعراض عنه»5(5) «مفتاح دار السعادة» (193/1 )..
ويقول الزرکشي: «القرآن كله لم ينزله منزله تعالى إلا ليُفْقَه ويُعْلم ويُفْهم ، ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكرون ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب»6(6) «البرهان» (2/ 160)..
وتدبر کتاب الله كان من الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى، وقد نص على ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم «مدارج السالكين»؛ وذلك في قوله: «ولقد كان السلف -رحمهم الله تعالى – يستشعرون هذا المعنى وهم يقرءون القرآن حتى أنهم كانوا يتلقونه تلقي الغائب الغريب لرسالة جاءت على شوق من الحبيب»7 (7) انظر: «مدارج السالكين» (3/ 17)..
قال الحسن بن علي رضي الله عنه: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها في النهار»8(8) «التبيان في آداب حملة القرآن» (ص28)..
بعض ما كتبه المفسرون حول آیات التدبر الواردة في القرآن الكريم
الحكمة من إنزال الكتاب
أولا: عند قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) وفيه خير کثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وفيه كل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه الله.
(لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) أي: هذه الحكمة من إنزاله ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها؛ فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) أي: أولو العقول الصحيحة؛ يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أن بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب»9 (9) «تفسير السعدي» (4/ 287-288)..
إعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية ومثيلاتها في القرآن: «وأما التأمل في القرآن: فهو تحدیق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر؛ قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]. وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون: 68]. وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3].
وقال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا.
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ -أي تضع- في يده مفاتیح کنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة: تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها؛ فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق حقا والباطل باطلا، وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا؛ فيصير في شأن والناس في شأن آخر.
معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه
فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل، وذکر براهین صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم، وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح، وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه، وعلى تفاصيل الأمر والنهي، والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبشره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل، فاللحاق اللحاق ! والرحيل الرحيل! وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل، وكلما خرج عليه کمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد»10(10) «مدارج السالكين» (1/ 451-453)..
التفكر مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين
ثانيا: عند قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
يقول السعدي رحمه الله تعالى: «أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء يحذر، ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته، وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل»11(11) تفسير السعدي (5/ 34)..
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالی عند هذه الآية: «ويتساءل في استنكار: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير.
(أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم کاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!»12(12) (في ظلال القرآن) (3297/6 )..
ثالثا: عند قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم:59-62].
يقول السعدي رحمه الله تعالى: «ثم توعد المنکرین لرسالة محمد ، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم فقال: (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ)؟ أي: أفمن هذا الحديث، الذي هو خير الكلام وأفضله، وأشرفه، تتعجبون، وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة، الخارقة للأمور والحقائق المعروفة؟ هذا من جهلهم، وضلالهم، وعنادهم؛ وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولا فهو القول الفصل، ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، الذي يزيد ذوي الإصلاح رأيا وعقلا، وتسديدا، وثباتا، وإيقانا، وإيمانا، بل الذي ينبغي العجب من عقل من تعجب منه وسفهه وضلاله.
(وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) أي: تستعجلون الضحك والاستهزاء به، مع أنه الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون؛ سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده و وعیده، والتفاتا لأخباره الصادقة الحسنة.
(وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) أي: غافلون لاهون عنه وعن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وزيف أديانكم، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال، لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب؛ ولهذا قال تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) والأمر بالسجود لله خصوصا يدل على فضله وأنه سر العبادة ولبها؛ فإن روحها الخشوع لله، والخضوع له، والسجود أعظم حالة يخضع بها العبد؛ فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة، موضع وطء الأقدام، ثم أمر بالعبادة عموما، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة»13(13) «تفسير السعدي» (5/ 133)..
قصة سيد قطب مع سورة النجم
ويحكي سيد قطب رحمه الله تعالى تأثره بهذه الآية وما قبلها في سورة النجم محاولا تفسير سجود المشركين بعد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه السورة فيقول:
«كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب يتلو سورة النجم، فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا.
وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه؛ عشت مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى، عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها؛ ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيلها وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى، عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي، وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى.
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات، وعلم الله يتابعها ويحيط بها، وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة.. الغيب المحجوب لا يراه إلا الله، والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد، والحشود الضاحكة والحشود الباكية، وحشود الموتی، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى، والنشأة الأخرى، ومصارع الغابرين، والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشی!
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: (هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) [النجم:56-58].
ثم جاءت الصيحة الأخيرة. واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم:59-62].
فلما سمعت: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) .. كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي، لم أملك مقاومته؛ فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة!
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح14(14) حادث السجود صحیح سندا ومتنا. انظر البخاري الحديث رقم (4862)، وهذا هو الأصل في قبول الرواية أما الوجدان فليس أصلا في التصحيح والتضعيف، وإنما هو وسيلة من وسائل زيادة اليقين بعد ثبوت النص .، وأن تعليله قريب؛ إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة، ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة، وذلك سر القرآن؛ فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون!»15(15) «في ظلال القرآن» (6/ 3420-3421)..
الهوامش
(1) “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله – عزَّ وجلَّ”، ص10.
(2) «مفتاح دار السعادة» (191/1 ).
(3) رواه مسلم (55).
(4) «التبيان في آداب حملة القرآن» (ص 113).
(5) «مفتاح دار السعادة» (193/1 ).
(6) «البرهان» (2/ 160).
(7) انظر: «مدارج السالكين» (3/ 17).
(8) «التبيان في آداب حملة القرآن» (ص28).
(9) «تفسير السعدي» (4/ 287-288).
(10) «مدارج السالكين» (1/ 451-453).
(11) تفسير السعدي (5/ 34).
(12) (في ظلال القرآن) (3297/6 ).
(13) «تفسير السعدي» (5/ 133).
(14) حادث السجود صحیح سندا ومتنا. انظر البخاري الحديث رقم (4862)، وهذا هو الأصل في قبول الرواية أما الوجدان فليس أصلا في التصحيح والتضعيف، وإنما هو وسيلة من وسائل زيادة اليقين بعد ثبوت النص .
(15) «في ظلال القرآن» (6/ 3420-3421).
اقرأ أيضا
من ثمار التفكر في نعم الله وآلائه