خلق الله تعالى الحياة وسننها، ووضع قوانينها؛ فلما اعتادها الناس كأنها تسير من تلقاء نفسها؛ قدّر تعالى أن يخرقها ـ أحيانا ـ بيانا لإرادة الخالق سبحانه.
مقدمة
وضع الله تعالى سننا وقوانين، يجب احترامها فقد أجرى تعالى الحياة على وفقها، وجعلها منتجة لمسبباتها. ولكن لئلا تتعلق القلوب بقوانينها وتغفل عن مُجريها ومُنشئها سبحانه؛ فقد قدّر تعالى أن يخرقها في مواقف معينة أو لبعض عباده، لتكون تقوة للتوجه اليه وكاشفة عن الإرادة الإلهية المطلقة.
من آيات الله لعبديه
ومن هذا ما قدّره تعالى من خرْق معجِز لنبيَيْه داوود وسليمان عليهما السلام، أسوة بإخوانهما من المرسلين.
تسخير الطير والجبال يسبحن معه وإلانة الحديد له
فقد سَخّر سبحانه الطير والجبال لداود عليه السلام يسبحن معه وألان له الحديد؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ:10].
يقول الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره»:
“يقول الله تعالى ذكره: ولقد أعطينا داود منا فضلًا، وقلنا للجبال: ﴿أَوِّبِي مَعَهُ﴾: سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب: الرجوع… ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ ذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول يصرفه في يده كيف يشاء بغير إدخال نار ولا ضرب بحديد”. (1«تفسير الطبري» (22/ 65-66) باختصار)
وذكر الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في «تفسيره»:
“أن ذلك كان من خصائص داود عليه السلام التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وأن ذلك يكون منهضًا له ولغيره على التسبيح؛ إذا رأوا الجمادات والحيوانات تتجاوب بتسبيح ربها، وتمجيده، وتكبيره، وتحميده كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى.
ومنها: أن ذلك كما قال كثير من العلماء أنه طرب لصوت داود؛ فإن الله تعالى قد أعطاه من حسن الصوت ما فاق به غيره، وكان إذا رجع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت الرخيم الشجي المطرب طرب كل مَن سمعه من الإنس والجن حتى الطيور والجبال وسبحت بحمد ربها”. (2«تفسير السعدي» (4/ 180-181))
تسخير الريح والجن وإسالة النحاس
سخر الله عز وجل الريح والجن لسليمان صلى الله عليه وسلم وأسال النحاس له؛ قال الله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ:12].
ويقول السعدي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية:
“لما ذكر فضله على داود عليه السلام، ذكر فضله على ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره، وتحمله، وتحمل جميع ما معه، وتقطع المسافة البعيدة جدًّا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم مسيرة شهرين، ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ أي: أول النهار إلى الزوال، ﴿وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ من الزوال إلى آخر النهار.
﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ أي: سخرنا له عين النحاس، وسهّلنا له الأسباب في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.
وسخر الله له أيضًا الشياطين والجن؛ لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره. ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾. وأعمالهم: كل ما شاء سليمان عملوه”. (3«تفسير السعدي» (5/ 181))
تعليم الله سبحانه سليمان عليه السلام منطق الطير
قال الله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل:16].
يقول الشيخ السعدي في «تفسيره»:
“فكان عليه الصلاة والسلام يفقه ما تقول الطير وتتكلم به؛ كما راجع الهدهدَ وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي. وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه السلام”. (4«تفسير السعدي» (3/ 498))
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الخارقة بقوله:
“..فما يملك تعليم منطق الطير للبشر إلا الله. وكذلك لا يؤتِي أحدًا من كل شيء ـ بهذا التعميم ـ إلا الله.
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم ـ هي لغاتها ومنطقها ـ فيما بينها، والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأنعام: 38]، ولا تكون أممًا حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات.
ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها، ووسائل التفاهم بينهم عن طريق الحَدْس والظن، لا عن الجزم واليقين، فأما ما وهبه الله لسليمان، عليه السلام، فكان شأنًا خاصًّا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر، لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهُّم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحَدْس، كما هو حال العلماء اليوم…
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبـهرهم انتصـارات العــلم الحــديث يحــاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان، عليه السلام، في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله أن يعلم عبدًا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات، هبة لدنِّية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد، وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع، وهو خالق هذه الأنواع..!
على أن هذا كله لم يكن إلا شقًّا واحدًا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان، أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنود من الإنس سواء بسواء، والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكًا خاصًّا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم، وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز.
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرَت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام، وإنها خاضعة ـ كحلقة مفردة ـ للناموس العام الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وُجدت به.
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهَدَاهد، وإن هناك عواملَ وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول، ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر. وإن هذا ـ كما يبدو ـ طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءًا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه؛ جزءًا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويُكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام، وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان”. (5«في ظلال القرآن» (5/ 2634-2635))
إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين في طرفة العين
قال الله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل:38-40].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
“﴿قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ والعفريت هو: القوي النشيط جدًّا. ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾. والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام، فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر؛ شهران ذهابًا، وشهران إيابًا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا ألتزم بالمجيء به، على كِبَره وثقله وبُعْدِه، قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه، والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى، نحو ثلث يوم؛ هذا نهاية المعتاد. وقد يكون دون الثلث، أو أكثر.
وأبلغ من ذلك أن: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾. قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له «آصف بن برخيا»، كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا به أجاب، وإذا سأل به أعطى”. (6ذكر بعض المفسرين أن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه).
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ بأن يدعو الله بذلك الاسم، فيحضر، وأنه دعا الله فحضر.
فالله أعلم، هل هذا هو المراد، أم أن عنده علمًا من الكتاب، يقتدر به على البعيد، وتحصيل الشديد..؟
﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ حمد الله تعالى على إقداره وملكه، وتيسير الأمور له، و﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ أي: ليختبرني بذلك. فلم يغترّ عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته، كما هو دأب الملوك الجاهلين؛ بل علم أن ذلك اختبار من ربه، فخاف ألا يقوم بشكر هذه النعمة.
ثم بيَّن أن هذا الشكر لا ينتفع الله به، وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه، فقال: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾؛ غني عن أعماله، كريم كثير الخير، يعم به الشاكر والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها، وكفرها داع لزوالها». (7«تفسير السعدي» (3/ 506) (باختصار))
خاتمة
هكذا كانت تلك الخوارق مقربة للعباد الى ربهم ومُعرّفة لهم به، وليست صارفة ولا مانعة. بخلاف العلم البشري اليوم الذي يتعاجب به الخلق فيتمردون على ربهم وينسونه ويبجحون فيوجه دينه ومنهجه، وقد يتمادون أكثر من ذلك..!
فأعطى الله خلقه مثالا لمن امتلكوا العلم وخرق السنن فكانوا أعبد الناس وأزهدهم وأقومهم بمنهج الله وأكثر جهادا في سبيل مرضاته ومنع معصيته.
………………………………
الهوامش:
- «تفسير الطبري» (22/ 65-66) باختصار.
- «تفسير السعدي» (4/ 180-181).
- «تفسير السعدي» (5/ 181).
- «تفسير السعدي» (3/ 498).
- «في ظلال القرآن» (5/ 2634-2635).
- ذكر بعض المفسرين أن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه.
- «تفسير السعدي» (3/ 506) (باختصار).